عاش غريبا ومات غريبا.. كيف تفاجأ جيران رائد النشيد الحركي "أبو مازن" بحقيقة إمام مسجدهم بالقاهرة؟

أبو مازن قضى أكثر من 30 عاما في مصر حتى وافته المنية (الجزيرة)

القاهرة- تلفت المصلون يتفقدون المهندس رضوان خليل ليؤمهم في صلاة المغرب، ومن يصلي بهم غير صاحب الصوت الندي، الذي يعرفه جل أبناء الحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم الإسلامي من خلال أناشيده باسم "أبو مازن"؟

افتقده المصلون، بعد أن أَمَّهم غيره، ثم خرجوا فوجدوا سيارته واقفة أمام مشغله البسيط المختص بالنسيج والملابس، ويبدو أن الشيخ رضوان في مكتبه، إذن فليصعدوا إليه ليسألوه عن سر غيابه النادر عن صلاة الجماعة، وقد كان في أيامه الأخيرة باديا عليه الإرهاق والتعب.

باب مكتب الشيخ موصد في الوجوه على غير العادة، أنصتوا منتظرين رده على الطرق على الباب، لكن لا جواب، هاتفوه؛ يرن جرس الهاتف منبعثا من الداخل، الشيخ إما نائم في الداخل، أو ترك هاتفه وخرج متعجلا.

أحدهم ساوره الشك والقلق، تحايل لدخول المكتب من نافذته المشرعة، ثوان مرت على الدخول، حتى سمع رفاقه شهقة الداخل وحوقلته، قبل أن يفتح لهم الباب ليدخلهم للمكتب.

مرأى الشيخ السبعيني وقد أُلقي على كرسيه جسدا بدون حراك، جعل الجميع يشهقون محوقلين، قبل أن يهرعوا إليه ليتعاونوا على حمله إلى سيارة أحدهم منطلقين به بسرعة إلى مستشفى قريب، فجعهم فيه النبأ الأليم: البقاء لله، مات الشيخ.

صدى أناشيد النهاية

ترددت كلمات النشيد -الذي كان الشيخ يصدح به قبل عقودـ في رأس عبد الرحمن بكر، وهو يوزع المهام على صحبة المسجد والمشغل بين كيفية إبلاغ أهله وبناته الخمس، وقد زوجهن كلهن بمصر.

بكى عبد الرحمن بكر وهو يتذكر أمام الجسد المسجى "يا شهيد.. يا شهيد.. يا شهيدا رفع الله به.. جبهة الحق على طول المدى.. يا شهيد".

هذه الأنشودة التي كان يسمعها عبد الرحمن عبر شريط كاسيت ضعيف الصوت رديء التسجيل، في شبابه، ثم ينخرط في بكاء مرير، وقد علم وقتها أن نظام الرئيس السوري حافظ الأسد، قد قطع لسان أبي مازن، وتركه ينزف ويموت، ليصير صاحب أنشودة "يا شهيد"، شهيدا، وتجسيدا للنشيد الذي كان يلحنه وينشده، هكذا اعتقد عبد الرحمن.

اليوم يكتشف -وجسد أبي مازن مسجى أمامه- أن الحكاية التي راجت بين أبناء الحركة الإسلامية -جمهور أبي مازن الأصيل والواسع- لم تكن حقيقية، ربما أشاعها أصدقاء أبي مازن لكي تكف أجهزة الأمن السورية عن ملاحقة رائد الإنشاد الحركي، وقد استقر به المقام في القاهرة بدون إعلان، هكذا يفسر عبد الرحمن الأمر في حديثه للجزيرة نت.

محراب مسجد عباد الرحمن الذي ارتاده أبو مازن لعقود (الجزيرة)

جمهور المصلين

جمهور المصلين المنتظرين الشيخ في صلاة العشاء في مسجد عباد الرحمن، تلفتوا باحثين عنه "أين الحاج رضوان؛ إمام المسجد؟"، وأُضيف إلى السؤال سؤال آخر "أين رفاقه من المصلين خلفه بانتظام؟" فقد كان المسجد -على صغر مساحته- يتسع لعشرات المصلين الذين يتقاطرون من أنحاء منطقة منشية السد العالي، شرق القاهرة، حيث يقع المسجد في شارع مسجد الوطنية متفرعا عن شارع جسر السويس الشهير.

تساءل المصلون، الذين لا يعرف معظمهم أنه المنشدُ أبو مازن الذي كان ملء الأسماع في ثمانينيات القرن الماضي.

دهشة بالغة كانت تعتري وجه أحد جيرانه، أثناء العزاء البسيط المقام قرب مسجده، وقد قال للجزيرة نت وهو لا يزال غارقا في دهشته "رغم أنني جاره منذ وطأت قدماه المنطقة قبل نحو 30 عاما، فإنني فوجئت بصور الشيخ على مواقع التواصل مصحوبة برثاء أليم من العديدين وبعضهم مشاهير من الشيوخ والمؤثرين على مواقع التواصل، لأعرف منهم أنه كان منشدا شهيرا قبل عقود".

تابع المتحدث، مفضلا عدم ذكر اسمه "لم يشر الراحل لذلك أبدا طوال معرفتي به، رغم القرب والتقارب، كما لم يحاول أن يؤدي أناشيد أمامنا ولو على سبيل الدندنة، كما يفعل بعضنا ببعض الأغاني والأناشيد".

يكسو القلق وجوه المعزين في سرادق العزاء الذي كان عبارة عن مقاعد قليلة وبسيطة بالشارع إلى جوار مصنعه، وبعد أن تبين لمعظمهم قيمة الراحل وأثره في الحركة الإسلامية المطاردة اليوم في البلدان؛ يرفض أصهاره تصوير جلسة العزاء البسيطة، تعبيرا ضمنيا عن القلق وتفضيلا للتواري، كما كان الراحل يفضل في حياته.

تبادل الجالسون بعضا من سيرته، قال أحد أصدقائه للجزيرة نت -متحفظا على ذكر اسمه- إن الراحل "لم يكن يحب أن يستطرد في سيرة تاريخه الإنشادي"، حتى إنه رغم أنه قريب جدا منه، لم يعرف قصته مع الإنشاد وشهرته القديمة إلا بعد وفاته.

ظل أبو مازن يؤذن للصلاة ويؤم المصلين في مسجد "عباد الرحمن" لسنوات طويلة، كان صوته الندي في الأذان للصلوات الخمس جاذبا، "كان رقيقا وعذبا ونابعا من القلب بصدق"، وفق الحاج سمير عبد الله، مؤدي الشعائر في المسجد حاليا، الذي أوضح للجزيرة نت أن الراحل كف عن الأذان منذ فترة للصلوات الخمس، مكتفيا بالأذان لصلاة الجمعة فقط.

واظب الراحل على إمامة صلاة التراويح في رمضان من كل عام، وهو ما جعل المسجد يكتظ بالمصلين وراءه استمتاعا بصوته الشجي الذي "سنفتقده في رمضان المقبل وكنا ننتظره بشوق"، كما يقول المتحدث.

 

يتردد صدى أناشيد أبي مازن في وجدان المتحدث باسم "الجبهة السلفية" خالد سعيد، متأملا في حياته ومماته، محاولا فهم ذلك "الأثر العميق الغائر الذي تركه في قلوب جيل كامل من أبناء الحركة الإسلامية، عايش محنة الإسلام ودعوته واكتوى بنارها وعاين قتل وأسر أصحابه وأحبابه، بل وليس منهم أحد إلا ونال حظه من البطش والتنكيل".

يمضي خالد سعيد في حديثه للجزيرة نت "خلصت من ذلك التأمل إلى عدة حقائق يجمع بينها أهمية "الجانب الوجداني"، فقد أطلق الرجل كلمات الرواد النابضة بالحياة، بسهام صوته الصادحة في فضاء الأمة، ليحكي عن شجن الاغتراب في الوطن، ووحشة الأسر، وقسوة السجان، ودم مراق، وعرض مهان، وأمة تضام، وشريعة مضيعة ومحنة موجعة".

شهرة أبي مازن الواسعة، من أيام انطلاق حنجرته بالإنشاد وهو شاب في الثانوية العامة، اقتصرت على أطياف أبناء الصحوة الإسلامية، على مستوى امتدادها الجغرافي بين جل البلدان العربية، من دون عامة الجمهور، لأنه كان "يمثل بدايات السماع لفن الإنشاد الحركي لمعظم هذا الجيل، وما تلاه من أجيال لفترة معينة، قبل أن تظهر أشرطة الإنشاد التي تستعين بالتقنيات الحديثة، ثم استعملت الآلات الموسيقية"، وفق الشيخ عصام تليمة.

مسجد عباد الرحمن الذي تولى أبو مازن إقامة الأذان وإمامة المصلين فيه على مدى سنوات (الجزيرة)

وكان صوت أبي مازن في التسجيلات خافتا ضعيفا، لا يكاد يبين في عبارات معينة، لرداءة التسجيل، إلى أن جرت مجهودات لجمع معظم الأناشيد مكتوبة، في سلسلة كتب بعنوان "أناشيد الدعوة الإسلامية"، فبدأ الناس يعرفون الكلمات المتقطعة التي لم تكن آذانهم تلتقطها بدقة.

هكذا وعى الناس كلمات أبي مازن، لكنهم ظلوا يجهلون شكله، بل واسمه الحقيقي، فأحاطت بشخصيته شائعات مناسبة لأناشيده الحماسية، فأشيع أن أتباع النظام السوري قطعوا لسانه، وكلها كانت شائعات لا أساس لها.

المصدر : الجزيرة