الجزائريون متوجسون.. ما قيمة رفع فرنسا السرية عن أرشيفها الاستعماري؟

يعدّ مطلب استعادة الأرشيف كاملا من أبرز شروط الجزائر في التوصل إلى مصالحة الذاكرة مع المستعمر القديم، إذ سبق لمفوضها الرئاسي عبد المجيد شيخي التأكيد مرارا على أنه "لا يقبل التنازل".

Algeria buries remains of 24 independence fighters
الجزائر خلال استعادتها رفات 24 مقاوما للاستعمار الفرنسي (الأناضول-أرشيف)

بعد أسبوع واحد من الاعتراف بتعذيب المناضل الجزائري علي بومنجل واغتياله على يد جيش الاحتلال سنة 1957، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إتاحة الاطلاع على الأرشيف السري للحقبة الاستعمارية في الجزائر، وخصوصا ما يتعلق بحرب التحرير الوطني (1954-1962).

وتأتي خطوة باريس الجديدة تنفيذا لواحد من أهم المقترحات الواردة في تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، حيث أكد في 20 يناير/كانون الثاني الماضي على ضرورة "إحراز تقدم في المسائل المتعلقة بالأرشيفات، بهدف نقل بعضها من فرنسا إلى الجزائر، والسماح للباحثين من البلدين بالاطلاع على الأرشيفات الفرنسية والجزائرية، وتسريع مسار رفع السرية عن الوثائق".

كما يعد مطلب استعادة الأرشيف كاملا من أبرز شروط الجزائر في التوصل إلى مصالحة الذاكرة مع المستعمر القديم، إذ سبق لمفوضها الرئاسي عبد المجيد شيخي التأكيد مرارا على أنه "لا يقبل التنازل".

ولم يصدر حتى الآن أي تعليق من الجهات الرسمية بشأن قرار ماكرون، لكن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون شدد -خلال آخر مقابلة جمعته بممثلي وسائل الإعلام- على أن "العلاقة بين الجزائر وفرنسا ورئيسها طيبة، وسمحت بالقضاء على نوع من التشنج في المواقف".

المناضل Ali Boumendjel
المناضل علي بومنجل (مواقع التواصل)

قرار غير بريء

أما على الصعيد الشعبي، ومن خلال ما تبرزه ردود الفعل على منصات التواصل الاجتماعي، فقد جاءت في عمومها متوجسة من نيّة وتوقيت العرض الفرنسي.

وكتب مدوّن على صفحة "الكيميائي" بموقع فيسبوك قائلا "عندما كنت أسمع السلطات الجزائرية تطالب فرنسا بتسليم الأرشيف كنت أتمنى ألا تفعل فرنسا ذلك، كي لا يضيع الأرشيف للأبد على يد من اختطفوا البلاد والعباد منذ 1962".

من جهته، كتب المهندس طارق متاح على جداره الافتراضي يقول "الأحسن أن نقول الأرشيف المنقح أو المعدل ونتعامل معه بحذر".

وأضاف "الأرجح أنه مثل السمّ في الطعام، لأنه مستحيل أن تكشف فرنسا عما يضر مصالحها وتعطي حقيقة عملائها في الجزائر.. هذا إنْ لم تعمل على إثارة الفتنة بين مكونات الشعب وضرب وحدته".

وبدوره غرد الصحفي محمد عصماني، فكتب إن "رفع السرية عن الأرشيف -وخاصة ما تعلق بالثورة الجزائرية- في هذا التوقيت بالذات، يستبعد جدا أن تكون عملية بريئة.. ويستبعد كذلك أن تكون لأجل الباحثين الجامعيين".

وتابع عصماني "عوّدتنا فرنسا بأن تحسب ألف حساب لكل خطوة تتعلق بالأرشيف أو الذاكرة… لذلك على الجزائريين مناقشة أي مستجدات أو معلومات في إطارها الأكاديمي، بعيدا عن الصراعات والنزاعات التي تثيرها هذه الملفات".

كما يرى الكاتب نبيل عاشور أن "فرنسا لن تبيع منْ خدموها في كل بقاع العالم وعلى مر العصور…هذه إستراتيجية لا تزال تعتمد عليها في تطويع المستعمرات القديمة".

ويعتقد أن "الأرشيف المرفوع عنه السرية فيه انتقاء مدروس بما يؤدي إلى خلق الفوضى أكثر من كشف الحقيقة".

French President Macron meets Belgium's Prime Minister De Croo in Paris
ماكرون قرر تسهيل الاطلاع على الأرشيف الاستعماري الخاص بالجزائر (رويترز)

متنفّس الفرنسيين

من جهة أخرى، لم تختلف كثيرا رؤية النخبة للقضية عن تفاعل عامة الجزائريين، حيث قللت من أهمية القرار المعلن، مؤكدة أنه ليس سوى ذرّ للرماد في العيون.

وفرّق الباحث في علم الاجتماع السياسي بالجامعة الفرنسية فيصل إزدارن بين قراءتين لخطوة ماكرون، الأولى في سياق فرنسي بحت، بينما تتعلق الأخرى بالجانب الجزائري.

وقال -في تصريح للجزيرة نت- إنها جاءت ثمرة لمطالب الباحثين الفرنسيين بتسهيل الولوج للأرشيف ونزع العراقيل لدواع أمنية وسياسية في غالبها، بشرط ألا تمس بالأمن والدفاع القومي لفرنسا.

وتحسبا لهذا الإجراء أمر الرئيس ماكرون باجتهاد تشريعي، كي لا يتعارض قانون التراث مع قانون العقوبات، بغرض تسهيل عمل الباحثين، من دون الإخلال بالأمن والدفاع القومي، وفق ما قاله إزدارن.

وأوضح إزدارن أن قانون الأرشيف الفرنسي لسنة 1979 ينص على مرور 60 سنة لنزع الطابع السري عن ملفات الأرشيف، بغرض الاطلاع عليها في إطار البحوث الأكاديمية.

وعليه، فإن هذا القرار يعد متنفسا للباحثين الفرنسيين الذين عانوا من العراقيل البيروقراطية والسياسية في استغلال الأرشيف، على حدّ تعبيره.

أما بالنسبة للطرف الجزائري، فقال إزدارن إن تييري سارمان -مسؤول الأرشيف بمصلحة التاريخ للقوات البرية بمدينة "فانسان" الفرنسية- قد كشف عام 2003 أن الجيش الفرنسي عندما تيقّن برجحان الكفّة لصالح جيش التحرير الجزائري عمد إلى إتلاف كمية كبيرة من الأرشيف بحجة ضيق أماكن الحفظ.

ويضيف ومنه يمكن أن نستخلص أن هذا القرار قد لا يكون ذا أهمية كبيرة بالنسبة للأرشيف الجزائري، باعتباره واقعا في أغلبه تحت السلطة العسكرية.

ويضيف إزدارن أن قرار ماكرون اقترن بضرورة عدم الإخلال بالأمن والدفاع القومي لفرنسا، بينما مسألة استرجاع الأرشيف الوطني غير مذكورة البتة.

أرزقي فراد من الممكن بناء علاقات ودية بين الجزائر وفرنسا بعد سنّ قانون تجريم الاستعمار (الجزيرة)
فراد: فرنسا لن ترفع السرية عن أرشيف الحقبة الاستعمارية في الجزائر بصفة مطلقة (الجزيرة)

الأرشيف الثانوي

من جانبه، يعتقد المؤرخ الجزائري محمد أرزقي فراد أن فرنسا لن ترفع السرية عن أرشيف الحقبة الاستعمارية في الجزائر بصفة مطلقة، بل ستبقى خطوتها نسبية جدا.

وقال للجزيرة نت "لا أتصور أبدا أن يرفع ماكرون السرية الكاملة عن الأرشيف، لأن ذلك سيكون بمثابة الاعتراف بالجريمة الاستعمارية، بينما فرنسا تتهرب منه حتى الآن".

وأوضح أن الأمر سيمس بأتباعها في الجزائر من بقايا "حزب فرنسا" كما يسمى شعبيا، ويكشف عن أبناء وأحفاد العملاء السابقين في دواليب الدولة، على حد تعبيره.

وشدد على أن خطوة ماكرون لا تمتّ بصلة لصحوة الضمير، بل تأتي بخلفيات اقتصادية، لحماية مصالح بلاده في الجزائر، في ظل منافسة قوية مع الأطراف الصينية والروسية والأميركية.

ولذلك لن يفيد كثيرا فتحُ الأرشيف الفرنسي المجتمعَ المدني والحقوقيين الجزائريين الذين يطمعون في ملاحقة فرنسا عن جرائمها، لأنها لن تمنحهم دليل إثبات لإدانتها، وما ستضعه بين أيدي الباحثين سيكون ثانويا مرتبطا بالأبعاد الثقافية، على حدّ وصف المؤرخ.

غير أن فراد أكد على أن مقاضاة فرنسا لدى المحكمة الدولية يبقى حقا مكفولا للأفراد والمنظمات والدولة، لأن جريمتها في الجزائر غير قابلة للتقادم.

ونفى وجود أي التزام اتفاقي يمنع الملاحقة القضائية، مثلما يشاع بشأن بنود الملحق السري لاتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين في 19 مارس/آذار 1962.

المصدر : الجزيرة