لماذا تدمر الانقلابات حرية الإعلام؟ انقلاب تونس يقدم الإجابة

ما هي الهيئة التي أغلقت مكتب الجزيرة في بغداد؟
(الجزيرة)

لعل الشعوب العربية تدرك بعد كل الكوارث التي تنزل كالصواعق على أم رأسها، أن حرية الإعلام ليست ترفا، ولكنها أساس التقدم والقوة والديمقراطية والاقتصاد القائم على المعرفة وحماية الحريات العامة.. ومن دونها تتعرض الدول للقهر والفقر والهزائم والتخلف.

سلوك الانقلابات!

من يريد أدلة على خطورة غياب حرية الإعلام على مستقبل الدول، فليدرس معي سلوك الانقلابات.. وكيف أنها تحرم الشعب من حقه في المعرفة لتتمكن من إخضاعه، والسيطرة عليه، وتضليله ليتحمل وزر وإثم تأييد سلطة الانقلاب، وتفويضها لارتكاب الجرائم والمذابح، وإشعال نيران الانقسام والاستقطاب، والحرب الأهلية.

بعد بيان الثالث من يوليو/تموز 2013 في مصر الذي تم فيه تعطيل الدستور، توجهت الدبابات مباشرة إلى مدينة الإنتاج الإعلامي لمحاصرة القنوات الإسلامية، واعتقال كل من يعمل فيها بأساليب مهينة توضح حقد سلطات الانقلاب على الحرية والديمقراطية، واستعلاءها بقوتها الغاشمة.

 تجهيل الشعوب ومنع وصول أية أفكار جديدة لها من أهم أسلحة الدكتاتورية في إخضاع الشعوب، ولذلك فإن كل فكرة جديدة أصيلة تشكل خطرا على النظام الذي لا يمتلك سوى قوته الغاشمة، ودباباته التي تنشر الخوف والرعب في النفوس.

الجزيرة.. لماذا؟

ثم اتجهت الدبابات لإغلاق قناة الجزيرة مباشر مصر، ومكاتب شبكة الجزيرة. وهذا ما فعلته سلطات الانقلاب في تونس، وكذلك فعلت سلطة بشار الأسد في سوريا من قبل، فانظر كيف تشابهت أفعالهم التي يسخر العالم منها، ويعتبرها دليلا على التخلف وفقر الفكر والخوف من نور الحرية.

بهذا تتضح الصورة، حيث لا يمكن إقامة نظام حكم دكتاتوري يقهر الشعب إلا إذا تم سحق حرية الإعلام، وفرض الصمت على الجميع خوفا من بطش السلطة وقسوتها.. فلا صوت يعلو فوق تهتهة السلطة وقهقهتها، وخطابها الأجوف الذي يقوم على تبرير جرائمها، وترديدها كلمة الإرهاب بشكل ممل بهدف الحصول على تأييد الدول الغربية.

وسلطات الانقلاب لا تريد أن يسمع الشعبُ أحدا غيرها، لأنها لا تملك أفكارا يمكن أن تساهم في تحقيق تقدم الدولة، ولا مشروعات حضارية يمكن بناء المستقبل على أساسها.

التجهيل سلاح الدكتاتورية

لذلك فإن تجهيل الشعوب ومنع وصول أية أفكار جديدة لها من أهم أسلحة الدكتاتورية في إخضاع الشعوب، ولذلك فإن كل فكرة جديدة أصيلة تشكل خطرا على النظام الذي لا يمتلك سوى قوته الغاشمة، ودباباته التي تنشر الخوف والرعب في النفوس.

هذا يمكن أن يفسر لماذا تضطهد السلطات الانقلابية العلمانيين الذين أيدوها ومهدوا لها الطريق للسيطرة على الشعب وإخضاعه، ولماذا تسجن الكثير من الإعلاميين بحجة الانضمام إلى جماعة ارهابية، وهي تعلم يقينا أنهم يعتنقون أفكار الانقلاب في السيطرة على الشعب وقهره.

إن سلطات الانقلاب تخاف من كل فكر حتى وإن كان في مصلحتها، وتضطهد كل من يحلم، أو ينتج أفكارا جديدة، أو يتحدث في السياسة، أو يكتب أو يذيع شيئا لم يصله عن طريق جهاز السامسونغ.

في النظم الانقلابية، هناك واحد فقط يفكر ويوجه، ويقيم الناس طبقا لهواه، وقد يقهر مؤيديه لينشر الرعب في نفوس معارضيه، وهو لا يهمه مضمون ما تقدمه وسائل الإعلام، بل إنه كلما كان ذلك المضمون هابطا ورديئا كان ذلك يرضيه بشكل أكبر، فهو لا يريد نجوما في مجال الإعلام، لكنه يريد مذيعين يكرههم الشعب ويسخر منهم، لأنهم يعرفون أن حياتهم ترتبط بالحاكم الدكتاتور.

لذلك ترتبط الانقلابات بعملية تجهيل الشعوب، وحرمانها من المعرفة والمعلومات، وإخفاء الحقائق، والتعتيم على الأحداث.

والظلم يتوحش في الظلام، ويفترس الناس، ويقهر القلوب والأرواح، فلا يجرؤ أحد على الدفاع عن الحريات العامة، أو كشف جرائم السلطة.

وسلطات الانقلابات ترى أن حكم الشعوب يكون أسهل كلما تزايد الجهل.. لكن هناك ظاهرة خطيرة هي أن الشعوب تخاف من الحصول على المعرفة والمعلومات كلما تزايد الظلم، واستخدمت السلطة قوتها الغاشمة في قهر الشعوب، فالمعرفة تزيد المسؤولية، لذلك يخاف الجاهل من الحصول على معرفة يمكن أن تتحدى جبنه وخنوعه وخضوعه مثل قصص الذين تمسكوا بمبادئهم، ودافعوا عنها بشجاعة.. فهو لا يريد أن يسمع شيئا عنهم، حتى لا يدفع الثمن مثلهم، ولذلك كثيرا ما يصدق الجهلاء اتهامات السلطة بالتمويل الخارجي لأولئك الذين يتميزون بالشجاعة، فيدافعون عن مبادئهم، ويطالبون بالحرية والديمقراطية والاستقلال الشامل، ويرفضون الخضوع لقهر السلطة.

وتستخدم السلطات الانقلابية الإعلاميين الذين لا يمتلكون الكفاءة ولا الموهبة لشن الهجوم على كل من يطالب بالديمقراطية، فلقد قال مذيع لضيفه -الذي تحدث عن الديمقراطية- ساخرا ومستهزئا ومهددا: هل تريد الديمقراطية لتعيد جماعة الإخوان إلى الحكم؟!

وهنا يتضح جانب مهم من الصورة، فالانقلاب عدو للديمقراطية، ولكل من يدعو لها حتى لو كان مؤيدا للنظام، وهذا يفسر سلوك سلطات الانقلاب نحو الأحزاب الليبرالية واليسارية التي تعرف عداءها للإسلام، لكنها ترفض هذه الأحزاب وتقوم بقهر أعضائها خوفا من الأفكار الديمقراطية والحديث عن الحرية.

خيانة قضية حرية الإعلام

في مساء الثالث من يوليو/تموز 2013 رأيت عددا من الإعلاميين يتجمعون أمام مقر قناة مصر 25، ويرفعون أحذيتهم في وجوه زملائهم الإعلاميين الذين قامت السلطات باعتقالهم ودفعتهم بعنف وإهانة إلى سيارات الترحيلات، في مشهد يشكل إذلالا لشعب مصر وانتهاكا لحقه في الحرية والديمقراطية.

وهذا يثير سؤالا خطيرا: لماذا يخون إعلاميون قضية حرية الإعلام، ويهللون فرحا لاعتقال زملائهم في المهنة؟.. ألهذا الحد نجحت سلطات الانقلاب في استخدامهم ضد حرية الإعلام التي تشكل الأساس لازدهار مهنتهم؟

وهؤلاء الذين خانوا قضية حرية الإعلام مكنتهم سلطات الانقلاب من إدارة المؤسسات الإعلامية، وانهارت هذه المؤسسات بسبب الفساد الذي أدى إلى تراكم الديون، وانهار توزيع الصحف التي أصبحت كئيبة ومملة تتحدث بشكل مستمر عن إنجازات يدرك الشعب أن لا وجود لها إلا على صفحات تلك الصحف.

وانصرف الناس عن مشاهدة قنوات لا تكف عن إذاعة الأغاني الوطنية، بينما ينهب اللصوص موارد الوطن، ويغرقونه في الديون، ويمكنون قوى الاستعمار من نهب ثرواته.

تشويه صورة الصحفيين

ولقد خسرت مهنة الإعلام صورتها الذهنية كوسيلة تستخدمها الشعوب في كفاحها ضد الاستعمار والاستبداد، وخسر الصحفيون صورتهم الذهنية كوكلاء للديمقراطية، وفرسان البحث عن الحقائق، الذين يقومون بإشباع احتياجات جماهيرهم للمعرفة، ويعبرون عن الرأي العام.

هذه الصورة شوهتها الانقلابات حين استخدمت السلطات الانقلابية الصحفيين في صراعها مع اختيار الشعب وإرادته، وفي مصادرة حقه في الحرية والديمقراطية.

ولقد سقط الكثير من الإعلاميين عندما أغراهم الطغاة بأموالهم التي تدفقت على وسائل إعلامية تم إنشاؤها لتضليل الشعوب وتمزيق وحدتها، والتمهيد للانقلابات، والادعاء بأن الشعب لا يستحق الديمقراطية لأنه جاهل يختار الإسلاميين في الانتخابات، بينما هم النخب المتقدمة التي تريد تقليد أوروبا، وتتميز بالحداثة وما بعدها.

ولكن هل قلدوا أوروبا في الديمقراطية وكفالة حريات المواطنين وحماية حقوقهم، وفي احترام نتائج الانتخابات التي تتم إدارتها بشفافية ونزاهة؟.. أم أن التقليد انصب فقط على نشر الإسلاموفوبيا، والهجوم على الإسلاميين واضطهادهم ونفيهم واستئصالهم؟

يثير ذلك قضية مهمة تحتاج إلى صحفيين يتميزون بالشجاعة والانتماء لأمتهم هي: هل كانت الانقلابات حلقة في مخطط أميركي إسرائيلي لتدمير الإسلام السني لمنع تقدم الأمة باعتباره أحد أهداف إستراتيجية طويلة المدى قامت على دراسات استشرافية، وتوقعات بأن الإسلام السني يمكن أن يحقق القوة خلال العقود القادمة، وأن الديمقراطية يمكن أن تفتح له المجال لبناء دول قوية ومستقلة تحقق التقدم، وتبني المجتمعات المعرفية.

تونس تحت الحماية

توقعت انقلاب تونس منذ أن أعلن قيس سعيد -في زيارته لباريس- أن تونس كانت تحت الحماية الفرنسية ولم تكن تحت الاستعمار الفرنسي، وأن ليس في تاريخ فرنسا ما تعتذر عنه.

هل يمكن أن نخضع نحن الصحفيين العرب ونتخلى عن مهنتنا ووظيفتنا وهويتنا كوكلاء للديمقراطية، ونرتضي لأنفسنا أن نكون مجرد أدوات تستخدمها السلطات الانقلابية في تدمير مهنتنا وتشويه صورتنا؟

شكل هذا التصريح صدمة لكل حر يعرف تاريخ الاستعمار الفرنسي والمذابح التي ارتكبها في بلاد المغرب العربي وأفريقيا خاصة في الجزائر.

ولقد توقعت أن يثور الصحفيون التونسيون ضد هذا التصريح.. لكن ذلك لم يحدث.. فهل يشكل ذلك تفسيرا لموقف فرنسا من  انقلاب قيس سعيد على الدستور وإغلاقه البرلمان وإسقاط الثورة التونسية واغتيال أحلام وآمال التوانسة في الحرية والديمقراطية والتقدم؟

وهل يمكن أن يفسر ذلك اتجاه قيس سعيد لإغلاق مكتب الجزيرة حتى يتم ارتكاب الجريمة في الظلام؟.. لكن لماذا تهلل القنوات التابعة للطغاة العرب لانقلاب قيس سعيد، وتقيم الأفراح؟!

إنه بالفعل نصر للطغيان العربي حيث يمكن أن يؤدي إلى انتشار فكرة عدم صلاحية الديمقراطية للتطبيق في الوطن العربي بعد انهيار آخر تجربة تبدو ناجحة بشكل نسبي، كما يشكل نصرا للاستعمار الفرنسي وسيطرة ما يطلق عليه "حزب فرنسا" الذي يتبنى العلمانية ويعادي الإسلام، كما يشكل نصرا لأميركا وإسرائيل، وهزيمة للتيار الإسلامي الذي يكافح من أجل تحقيق الاستقلال الشامل ويرفض التبعية، وفي غياب هذا التيار يتم الخضوع بشكل نهائي للسيطرة الإسرائيلية والتطبيع معها باعتبار أن ذلك هو الحل الوحيد لتحقيق الأمن والاستقرار ومواجهة المشكلات الاقتصادية بالحصول على القروض والمساعدات الأجنبية.

لكن هل يمكن أن نخضع نحن الصحفيين العرب ونتخلى عن مهنتنا ووظيفتنا وهويتنا كوكلاء للديمقراطية، ونرتضي لأنفسنا أن نكون مجرد أدوات تستخدمها السلطات الانقلابية في تدمير مهنتنا وتشويه صورتنا؟

إن أمتنا تحتاج لكفاحنا من أجل حرية الإعلام لتستخدم الإعلام في بناء ديمقراطيتها وتقدمها.. أمتنا تحتاج إلى صحفيين يرفضون الخضوع والخنوع والاستسلام، ويتذكرون أن الصحفيين كانوا زعماء الأمة وقادة كفاحها، وهم الذين طالبوا بالدستور والمجلس النيابي والاستقلال التام.

والانقلابات تدمر حرية الإعلام، وتقهر الصحفيين، وتريد تجهيل الشعب لأنها تحتقره وتروج خرافة أنه لا يستحق الديمقراطية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.