قراءة في المشهد السياسي المغربي.. حزب العدالة والتنمية من الصعود إلى الأفول

الخيارات السياسية أمام حزب "العدالة والتنمية" المغربي
(الجزيرة)

خلفت نتائج الانتخابات (البرلمانية والجهوية والجماعية) -التي نظمت في الثامن من سبتمبر/أيلول الماضي- ارتدادات كبيرة في المشهد السياسي المغربي، لعل أبرزها الانهيار الكبير لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، الذي ظل يرأس الحكومة ولايتين سابقتين منذ سنة 2011، في سياق دستور جديد جاء استجابة لحراك "20 فبراير"؛ النسخة المغربية من احتجاجات الربيع العربي، غير أن حزب العدالة والتنمية وإن لم يشارك بشكل رسمي في الاحتجاجات الشعبية حينها، بل اتخذ منها أمينه العام عبد الإله بنكيران موقفا سلبيا، بدعوى عدم وضوح الجهات التي تقف خلفها، والأفق السياسي الذي تنشده؛ فإن ذلك لم يمنعه من صياغة خطاب سياسي رديف لها سمي "الخط الثالث"؛ أي بين الثورة والبقاء في الوضع اللاديمقراطي، وهو ما عبر عنه بشكل أدق  بعبارة "الإصلاح في ظل الاستقرار"، مما جعله عمليا القوة السياسية المؤهلة لاستيعاب مطالب شريحة واسعة من المجتمع المتطلع "لدمقرطة" المؤسسات وتحقيق بعض أوجه العدالة الاجتماعية؛ فالرغبة الجامحة بأوساط المجتمع في الارتقاء لوضع أفضل وإرساء دعامة دولة الحق والقانون، المعبر عنها في شكل احتجاجات، أو تلك الصامتة في ثنايا المجتمع العميق؛ جعلت العدالة والتنمية حينها المستفيد الأول سياسيا من تلك الروح المتشكلة والمزاج العام، ثم المسؤول الأول في الحقل الحزبي عن صيانة التحول المنتظر.

فهل يعود إخفاقه الراهن إلى العوامل نفسها التي كانت سببا في اعتلائه سدة التدبير الحكومي إلى جانب فرقاء سياسيين آخرين؟  أو إن هناك عوامل أخرى غذت الانهيار الانتخابي الذي حصل للحزب نظرا لطبيعة النسق السياسي المغربي المختلف نسبيا عن باقي أنماط الحكم؟

ظل ذلك النفس النقدي سمة غالبة في الخطاب السياسي للعدالة والتنمية مع زعيمه عبد الإله بنكيران، ليس فقط في فترة المعارضة، وإنما استصحبه معه وهو على رأس الحكومة كذلك في مواجهته البنية العميقة للدولة والأطراف التي كانت تناهضه في الإدارة والإعلام

الصعود السياسي لحزب العدالة والتنمية

عمل حزب العدالة والتنمية على صياغة خطاب سياسي نقدي استطاع من خلاله الوصول إلى شرائح واسعة، إذ قدم نفسه كونه المخلص من التراكمات السلبية التي خلفتها الحكومات السابقة، وتحالفات السلطة والثروة، وما ينشأ عنهما من ريع وامتيازات لذوي الحظوة، وعبر عبد الإله بنكيران عن ذلك في الانتخابات البرلمانية لسنة 2016 بعبارته الدارجة حيث يتفنن في إدارة الصراع السياسي بها "اعطيوني أصواتكم وخليوني مني ليهم"، أي "امنحوني أصواتكم ودعوني أواجههم من أجلكم"، أي حيازة الشرعية -شرعية الإرادة العامة- لمواجهة السلطوية من أجل الديمقراطية والدفاع عن الفئات الهشة بهدف تحقيق مطالبها الاجتماعية التي ظلت معلقة أو منسية في سياق سياسي واقتصادي ينتج التفاوت الاجتماعي والطبقي ويعمل على تعميقه.

لقد ظل ذلك النفس النقدي سمة غالبة في الخطاب السياسي للعدالة والتنمية مع زعيمه عبد الإله بنكيران، ليس فقط في فترة المعارضة، وإنما استصحبه معه وهو على رأس الحكومة كذلك في مواجهته البنية العميقة للدولة والأطراف التي كانت تناهضه في الإدارة والإعلام، حتى قيل إنه كان يرأس الحكومة ويمارس المعارضة في الآن ذاته، والواقع أن تلك السمة السياسية النقدية وفتوة الحزب وقوته التنظيمية، بالإضافة إلى "الكاريزما" التي كان يتمتع بها زعيمه حينذاك وخطابه السياسي الذي يعتمد الدارجة بشكل غالب ويمتح قاموسه من المدلول الشعبي المبسط في عرض الإكراهات والتحديات التي يواجهها في التدبير؛ جعل حزب العدالة والتنمية يحافظ على صدارته المشهد السياسي سنة 2016، مما يعني أن الكتلة الناخبة التي قامت بالتجديد له كان دافعها سياسيا واجتماعيا، بهدف تحسين الوضع المعيشي وترسيخ أسس الديمقراطية.

عوامل الإخفاق وأسباب الانهيار الانتخابي

عقب الإعفاء الذي تعرض له زعيم حزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران سنة 2017، بعد "البلوكاج السياسي" الذي امتد حينها نحو 5 أشهر، وتكليف سعد الدين العثماني بتشكيل الحكومة؛ كان الدخول في شروط جديدة ومنطق مختلف خالٍ من الروح السياسية التي طبعت المرحلة السابقة، وكان أولها تشكيل تلك الحكومة نفسها وطبيعة التنازلات التي قدمها رئيسها، حيث غاب المضمون السياسي عنها، هذا الغياب للصبغة السياسية النقدية سيمتد طيلة ولاية الحكومة الثانية، مما جعل أفق الديمقراطية الذي رفعه الحزب -على نعومته في الخطاب السياسي الحزبي المغربي وما ينتظر فيه من تأثير في نسق السلطة-  يتراجع من سلم أولوياته مقابل سعي حثيث من بنية السلطة لاستعادة بعض التنازلات التي قدمتها في دستور 2011، وهو ما جعل الرهان على العدالة والتنمية في معركة الديمقراطية يتبخر من وجهة نظر شريحة من كتلته الناخبة التي وجهتها الاعتبارات السياسية، وإنْ كان بعضها يختلف معه أيديولوجيا.

أما المستوى الثاني، فهو مدّ الحزب يده إلى العديد من الملفات التي تمس العيش اليومي للمواطن، ومنها إصلاحه صندوق المقاصة الذي تأثرت به أسعار بعض المواد التي كانت مدعمة من قبل الدولة، بالإضافة إلى تقاعد الموظفين، ثم اعتماده التوظيف في سلك التعليم بالتعاقد، حيث يُحرم المتعاقدون من جملة حقوق يتمتع بها نظراؤهم في الوظيفة العمومية، وكل من التقاعد والتعاقد يمسان شريحة واسعة، هي في الأساس الطبقة الوسطى التي تعد حاملة رهانات التغيير؛ كونها الطبقة المثقفة والمتعلمة، مما يعني أن المساس بحقوقها يعد نوعا من المفاصلة مع كتلة حرجة تعمل على إشاعة الوعي، والوعي السياسي -خاصة- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

لقد كانت تلك الملفات ذات الطابع الاجتماعي بمثابة النار الحارقة في يد الدولة، ولم يكن في مكنتها تمريرها من دون وجود حامل حزبي له امتداد اجتماعي يستطيع تمريرها من دون أن تتأثر الدولة بذلك، فكان سنها بمثابة وضع تلك النار في يد حزب العدالة والتنمية، فاحترق بها كما ظهر في الانتخابات الأخيرة.

ويمكن القول إن ذلك النهج عالج مؤقتا أزمات الدولة المتراكمة على أكثر من صعيد من دون أن ينعكس آنيا على المجتمع، خاصة الشرائح التي تنتسب إلى تلك القطاعات.

أما العامل الآخر المؤثر كذلك، فهو قبوله تمرير جملة من القرارات التي تتناقض مع مبادئه ومنطلقاته المرجعية، ومنها ما سمي القانون الإطار الذي تم من خلاله اعتماد الفرنسية بدل العربية في بعض مواد التدريس، ثم التوقيع على التطبيع، بالإضافة إلى قانون يخص زراعة القنب الهندي في مناطق محددة بهدف الاستعمالات الطبية.

لقد أسهم قبول الحزب قرارات تمس خلفيته المرجعية في تبدد رصيده الرمزي الذي بناه على تلك الأسس، ليس داخل المجتمع وحسب، وإنما وسط قاعدته الانتخابية القارة التي تقدمها لها روافده الجمعوية أو تلك التي تتقاطع معه من منطلق مرجعيته الإسلامية، بحيث نزعت هذه الشريحة كذلك إلى ما سمي "التصويت العقابي"، أو الامتناع عن التصويت كلية واختيار المقاطعة موقفا سياسيا، مما يعني أن الحزب نفسه عرف انقساما في المواقف ظل مسكوتا عنه، وإن كان يظهر في مواقف احتجاجية بين الحين والآخر بين قادته ومنتسبيه على السواء، وهو ما أثر سلبيا كذلك.

نتائج الانتخابات وتحديات المستقبل

‏الذي لا ينتبه إليه مع السقوط المدوي للعدالة والتنمية في حصيلته الانتخابية العددية، ليس هو السقوط ذاته، الذي يفهم من خلال العوامل المذكورة سابقا، إنما العودة سياسيا إلى ما قبل سنة 2011 بأدوات ناعمة، بحيث سيتم تدبير الحكومة من خلال أدوات السلطة أو بنية الحكم نفسها في المشهد السياسي. فرغم نتائج الانتخابات عدديا بالنسبة لحزب التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة، فإنها قد لا تعبر عن الإرادة السياسية للمجتمع، ذلك أن هذه الأحزاب مشوبة بارتباطها بالسلطة منذ النشأة.

يكفي أن نشير إلى أن اصطناع المرشحين الأحرار في سبعينيات القرن الماضي، والذي سيتحول إلى حزب التجمع الوطني للأحرار، كان بهدف إضعاف حضور الأحزاب الوطنية وفي مقدمتها حزبي الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال بالإضافة إلى التقدم والاشتراكية، وجميعها كانت تصارع من أجل الديمقراطية والتحديث، ومنذ ذلك الحين كان حضور الحزب الفائز حاليا كأداة معبرة عن السلطة ذاتها وليس عن إرادة المجتمع، وأداة إعطاب للديمقراطية وتجمع للمصالح وليس تعبيرا عن التحديث أو حاملا لإيديولوجيا تهم التغيير، وصدارته الراهنة للمشهد تمت بفعل الاستثمار الإعلامي في الرفض المجتمعي للقرارات السلبية التي اتخذتها الحكومة السابقة في حق المواطن، وهي التي كان جزءا منها، وتحويل ذلك الرفض بفعل وسائل الدعاية الإعلامية لصالحه، وهو الدور الذي ما كان ليحصل من دون دعم بنية الدولة العميقة أو ما يسمى "المخزن".

سيكون انعكاس ما أفرزته الانتخابات الراهنة على المستقبل السياسي والاجتماعي للنخب والدولة معا؛ إذ إن إضعاف القوى السياسية والمدنية، قد يخلق الكثير من المتاعب للدولة في السياقات الاجتماعية الحرجة، فحجم الانتظارات المتفجرة قد تنتج عنها ديناميات مجتمعية متنوعة في حال تم الإخفاق في تحقيقها، ومن ثم تصبح الدولة في مواجهة الشارع دون وسيط حزبي أو مدني له القدرة على استيعاب مختلف أشكال الرفض المستقبلي، وهو ما قد يهدد الكيان الاجتماعي والسياسي برمته، لا سيما أن شريحة واسعة أضحت تتساءل عن جدوى فعالية أطروحة الإصلاح من الداخل في ظل نهج بنية المخزن في العمل على إضعاف وتفكيك القوى السياسية الوطنية بعد إدماجها، من الاتحاد الاشتراكي سابقا إلى العدالة والتنمية حاليا.

‏ختاما، إن النتائج التي أفرزتها الانتخابات الحالية ليست وليدة اللحظة، إنما تداخلت فيها عوامل ذاتية ذات صلة بشرود الخطاب السياسي للحزب وتبريره القرارات السلبية ذات الصبغة الاجتماعية، وأخرى موضوعية مرتبطة بطبيعة النسق السياسي المغربي و"ميكانيزماته" في تدبير العلاقة مع القوى السياسية الوطنية منذ الاستقلال، وهي "ميكانيزمات" تمتد تاريخيا إلى زمن السلطة/المخزن والقبيلة، وتتكيف وتتجدد مع المتغيرات السياسية والاجتماعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.