نظرات وعبرات | هل يحتاج الفلسطينيون إلى الانتخابات؟

في الذكرى الـ71 للنكبة.. الفلسطينيون متمسكون بحق العودة لديارهم
(الجزيرة)

يستعدّ الفلسطينيون للدخول في انتخابات تشريعية تعقبها أخرى رئاسية داخل مناطق السلطة الفلسطينية، وقد اتفقت القوى الفلسطينية، وعلى رأسها حركتا "فتح" و"حماس" برعاية مصرية، على هذا الأمر، بعد سنوات من المماطلة والمناورة والمراوغة والتجاذبات والاتهامات المتبادلة، لكن لماذا؟ لماذا يريد الفلسطينيون الذهاب إلى الانتخابات؟ هل هذا هو ما يحتاجون إليه للتغلب على المأزق الكبير الذي يعيشونه منذ اتفاق أوسلو المشؤوم؟ هل الانتخابات هي ما تحتاج إليه القضية الفلسطينية، لتستعيد وهجها وتستعيض خسائرها المتزايدة يومًا بعد يوم؟ هل ستفتح هذه الانتخابات للشعب الفلسطيني بابًا جديدًا للخلاص المفقود، أم ستفتح بوابة أخرى من بوابات العذاب والمعاناة؟

 

الانتخابات الفلسطينية المقبلة ليست من أولويات الشعب الفلسطيني الحالية، وفي أحسن أحوالها، ستكون مجرد نشاط سياسي وإداري أجوف، ونفقات مالية عزيزة في غير محلها، وتقاسمات سلطوية خارج زمانها، ولن يكون لها أي دور في حل أزمة الشعب الفلسطيني، وإخراج القضية الفلسطينية من مأزقها الراهن.

 

 الخطأ الأفدح!

أخيراً تم التوافق برعاية مصرية، على إجراء الانتخابات الفلسطينية في الصيف القادم، وباتت أعناق الكوادر الحزبية تشرئب إلى أعلى متفقدة مواقعها في خريطة السلطة القادمة، لكنه، مثلما كانت الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأولى قبل 15 عامًا، خطأ فادحًا، فقد وجب التنبيه على أن إعادة إجراء الانتخابات من جديد تعدّ خطأ أفدح من سابقه، وذلك لأسباب عدة، من أهمها:

1. غياب الدولة

إن إجراء الانتخابات يعدّ من أعمال الدول المستقرة ذات السيادة، التي توافقت فيها القوى السياسية على اللجوء إلى صندوق الانتخابات لتولّي السلطة واختيار ممثلي الشعب. أما فلسطين، فهي ما زالت قضية وطن مغتصب، ولا ينطبق على أرضها وشعبها ما ينطبق على أرض وشعب غيرها من الدول، فالشعب الفلسطيني الذي يزيد تعداده على 14 مليون نسمة، يعيش نصفه داخل الأرض الفلسطينية، والنصف الآخر في أرض الشتات والمهجر، أما النصف الذي يعيش داخل الأراضي المحتلة، فهو في الواقع، يخضع بصورة شبه كاملة لسلطة الاحتلال من اقتحام واعتداء وقتل واعتقال، وكذلك الأرض الفلسطينية التي أفرزتها اتفاقية أوسلو تخضع بالكامل لسلطة الاحتلال الصهيوني، يعتدي عليها في الوقت الذي يشاء، ويفعل فيها ما يشاء من ضمّ ومصادرة ونهب وحرق وتدمير، تحت نظر وسمع سلطة أوسلو، دون أن تحرك ساكنًا ضده. ومن ثمّ، فإن الانشغال بالانتخابات في ظل هذه الظروف يعدّ عملية عبثية، لا طائل من ورائها، وستؤثر سلبًا بصورة كبيرة في المأزق الفعلي الذي تعيشه القضية الفلسطينية وتزيده تعقيدًا.

2. هشاشة البنية الوطنية

البنية الفلسطينية الوطنية الراهنة في أسوأ حالاتها، بسبب غياب التربية الوطنية في مقابل تغلغل التعبئة الحزبية والفكرية الحادة، وطول أمد حالة الانقسام الفلسطيني، والفشل الذي منيت به المحاولات الداخلية والخارجية لرأب الصدع، فضلًا عن الخطاب الإعلامي الذي يزيد الشرخ اتساعًا، والانقسام حدّة، يومًا بعد يوم منذ أكثر من 10 سنوات.

وغياب التعبئة الوطنية أدى إلى هشاشة البنية الوطنية، وتجذّر العصبية الحزبية والأيديولوجية، خاصة بين حركتي فتح وحماس، اللتين فشلتا حتى الآن، ليس فقط في إنهاء الانقسام، بل في كثير من القضايا التي تفرضها أولوية مشروع التحرر الوطني من الاحتلال. هذا الوضع يعني أنه لا توجد حتى الآن دولة في فلسطين، ولا يوجد وطن للفلسطينيين؛ توجد حركات مهيمنة، تتقاسم النفوذ على الأرض والشعب، تتباين برامجها للتحرر، وتعلو مصالحها الحزبية على مصالح الأرض والشعب والوطن. أليس من المخجل جدًا أن تحتفظ سلطة "فتح" في الضفة الغربية في سجونها بمعتقلين من حركة "حماس"،  وتحتفظ سلطة "حماس" في قطاع غزة في سجونها بمعتقلين من حركة "فتح"، وتفشل الحركتان في القيام بعملية تبادل (أسرى) بينهما لاستعادة المعتقلين؟

3. عسكرة الفصائل

تمتلك الفصائل الفلسطينية حاليًا داخل فلسطين المحتلة ترسانة عسكرية كبيرة لم تتوفر لها منذ فجر القضية الفلسطينية، وخاصة لدى حركتي فتح وحماس، ويمثل ذلك تهديدًا كبيرًا للواقع الفلسطيني، إذا تحولت فوهة هذه الترسانة من اتجاه العدو المشترك وهو الاحتلال الصهيوني، إلى صدور الفصائل الفلسطينية نفسها، عندما يهدد بعضها المصالح المباشرة للبعض الآخر، تحت تأثير عوامل عدة داخلية وخارجية، من بينها نتائج الانتخابات في مثل هذه الظروف والأجواء. لقد انفجرت آلة القتل في وجه القوى الوطنية بسبب التنازع السلطوي في بعض البلدان العربية، مثل ليبيا واليمن وسوريا، وليست الحالة الفلسطينية ببعيدة من ذلك.

4. الحقيقة المرة

الحقيقة المرة أن الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة وخارجها، يعيش -في معظمه- تحت قيادة فلسطينية بحكم الأمر الواقع، تتقاسمها حركتا "فتح" و"حماس"، فهما تتقاسمان السلطة داخل الأرض المحتلة منذ أكثر من 10 سنوات، كما تتقاسمان النفوذ في إدارة شؤون الفلسطينيين في الشتات، والقضية الفلسطينية تسير بكل رتابة عامًا بعد عام؛ الرئيس أبو مازن، محمود عباس، ما زال يحكم من مدينة رام الله دون انتخابات ودون مجلس تشريعي حتى الآن، وأبو العبد، إسماعيل هنية، يحكم في قطاع غزة دون انتخابات حتى الآن، ولكل منهما علاقاته الإقليمية والدولية التي تؤمن له الشرعية السياسية اللازمة، وتوفر له الدعم المالي الذي يكفيه، فما الذي سيتغير في هذا الواقع بعد الانتخابات؟ وكيف؟

أولويات المأزق الفلسطيني الراهن

للأسباب السابقة وغيرها، لا أعتقد أن الانتخابات المقبلة هي من بين أولويات الشعب الفلسطيني الحالية، وفي أحسن أحوالها، ستكون مجرد نشاط سياسي وإداري أجوف، ونفقات مالية عزيزة في غير محلها، وتقاسمات سلطوية خارج زمانها، ولن يكون لها أي دور في حل أزمة الشعب الفلسطيني، وإخراج القضية الفلسطينية من مأزقها الراهن، فالشعب الفلسطيني المأزوم مشكلته ليست في من يمثله دون أن يكون له حول ولا قوة، وإنما في لقمة عيشه وعافيته والحصار المضروب حوله في الداخل وفي دول الشتات، مشكلته في سنوات المعاناة المريرة التي يورث بعضها بعضًا، وفي الأجيال الجديدة التي ترضع الألم، وتتربى على الضنك والحقد والإحباط.

أما أولويات المأزق الفلسطيني فهي كما يأتي:

1. إنهاء الانقسام

إنهاء الانقسام بين حركتي "فتح" و"حماس" لم يعد خيارًا لكل منهما، بل هو مطلب إجباري، لا تستقيم بوجوده القضية الفلسطينية. هذا الانقسام مع الأسف الشديد ما زال مستمرًا منذ سنوات عدة. وأعتقد أنه لا بد من قيام حركة ثقافية فكرية فلسطينية تفرض على الحركتين إنهاء الانقسام.

2. التوافق على مشروع تحرر وطني من الاحتلال

هذا التباين بين الفصائل الفلسطينية في البرنامج السياسي لحل القضية الفلسطينية، لا ينبغي له الاستمرار، لأنه لا يستقيم الأمر معه، فلا يمكن المضي قدمًا في وجه الاحتلال الصهيوني دون مشروع تحرر وطني مشترك؛ ولتكن الرؤى السياسية متفاوتة بين الفصائل، لكن برنامج التحرر الوطني لا بد من أن يكون واحدًا ومشتركًا، ويحظى بالإجماع والدعم والتأييد والمساندة من جميع الفصائل الفلسطينية وقواعدها، مع سدّ الطريق تمامًا أمام أي فصيل أو أي صوت يخرج عن هذا البرنامج. ومع الأسف الشديد كذلك، فقد مضت سنوات على هذا الأمر، وقد بحّت الأصوات التي تنادي بذلك، من غير جدوى، والسبب الأكبر هو الانقسام الذي صارت القضية الفلسطينية معه قضيتين، ومشروع التحرر مشروعين، والمعاناة الفلسطينية صارت ضعفين.

3. استعادة زخم القضية الفلسطينية

خسرت القضية الفلسطينية كثيرًا من زخمها السياسي والشعبي عربيًا وإسلاميًا ودوليًا، لأسباب عدة، من بينها الآثار المتتابعة لثورات "الربيع العربي" في بعض الدول العربية، والانكفاء الذاتي الذي تبعها، واستمرار الانقسام الفلسطيني، ومشروع صفقة القرن، وتقاطر عدد من الدول العربية في مسار التطبيع مع الاحتلال الصهيوني؛ هذا الزخم بحاجة إلى من يعمل على استعادته استعادة منظمة مدروسة ومبدعة في الوقت نفسه. أيام القضية الفلسطينية وشعبها تختلف عن أيام بقية دول وشعوب العالم، ففلسطين قلب العالم، وبؤرة الصراع والاستقرار، ولا ينبغي لها أن تهدأ أو تستكين، حتى تتحرر من الاحتلال وتسترد حقوقها.

4. بناء الهوية الوطنية

لا تزال الهوية الوطنية الفلسطينية تهوي في فراغ ممتد ومخيف، تنهشها الحزبية والفصائلية والتباينات الأيديولوجية، وغياب المؤسسات الوطنية المسؤولة عن بناء الإنسان الفلسطيني أينما كان بناء موحدًّا من حيث الانتماء والفهم والرؤية للماضي والحاضر والمستقبل والصراع، والمكونات الوطنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية، ومن حيث المساواة في الحقوق والواجبات، وتجريم التعدي عليها خارج الدستور والقانون، دون هيمنة أو احتكار.

هذه الأولويات الفلسطينية لن تحلّها الانتخابات التشريعية ولا الرئاسية، وإنما تحتاج إلى معجزة من نوع خاص، تصنعها قيادات انتظمت عندها الأولويات، واتضحت لها الرؤية واستقام أمامها الطريق.

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.