العالم الإسلامي كمفهوم علماني (١)

التاريخ الإسلامي - تراث - تاريخ التطعيم الطبي
(الجزيرة)

العالم الإسلامي مفهوم كولونيالي علماني. هذا جوهر ما يطرحه البروفيسور جميل آيدن في كتابه "فكرة العالم الإسلامي: تاريخ فكري عالمي".  يجادل آيدن بأن العالم الإسلامي لم يستمد مفاهيميا وتاريخيا من مفهوم الأمة القرآني، وإنما هو مفهوم مفارق له، إذ ثمة انقطاعات بين كلتا الكلمتين؛ فالأمة تشير إلى جماعة من المؤمنين، أما العالم الإسلامي فهو وحدة تحليل جيوسياسية، وهو يشير إلى جماعة عالمية تتشارك العادات، والاهتمامات، والخبرة السياسية على نحو مختلف عن الآخر غير المسلم.

الإسلاميون والغربيون على السواء يتحدثون عن "الغرب" وعن "العالم الإسلامي"، لكن آيدن يعدّ هذه الثنائية نوعا من "القَبَلية ويحاجج بأنها دعاية كولونيالية خطرة.

والعالم الإسلامي كمفهوم هو مقابل الغرب المسيحي وفي صراع أبدي معه، وهو مفهوم يقوم على فكرة الإسلام المجرد الجامد المنزوع من سياقاته التاريخية الاجتماعية والثقافية، وهو مفهوم يقتضي وحدة سياسية شاملة ويشهد سيولة في ترتيب كلٍّ من الأولويات الدينية والإستراتيجية عبر الزمن، وهو في النهاية يشير إلى فئة عرقية وحضارية لا إلى جماعة من المؤمنين، وهو مفهوم يعيش دائما عملية مستمرة -من الخلق، والانقطاعات، والطفرات، وإعادة الخلق- تدور حول الخلافة، والأمة، والحراك الأممي الإسلامي، وهو في المحصلة ليس أكثر من مجرد وهم لا يزال مستمرا.

فالإسلاميون والغربيون على السواء يتحدثون عن "الغرب" وعن "العالم الإسلامي"، لكن آيدن يعدّ هذه الثنائية نوعا من "القَبَلية ويحاجج بأنها دعاية كولونيالية خطرة. ويبني آيدن حججه عبر سردية تاريخية جينالوجية نقدية عابرة للقرون ليبيّن حداثة فكرة العالم الإسلامي وكيفية تشكلها وتطورها، والجهود الدائمة لاستغلال هذه الفكرة لأغراض سياسية من قبل القوى الإسلامية والغربية معًا، وينتهي آيدن إلى أن مفهوم العالم الإسلامي ذاته مفهوم علماني مخترع، وليس ثمة دليل أفضل على ذلك من حقيقة أن "العالم الإسلامي" أُنتج خطابيا في إطار الفعل ورد الفعل بين حملات التبشير والاستشراق من ناحية وناشطي الحراك الأممي الإسلامي والحداثيين/الإصلاحيين الإسلاميين في أثناء 150 سنة الأخيرة. وفي ما يأتي نتناول أفكار وحجج آيدن الرئيسة والمحطات التاريخية التي توقف عندها.

تثير حجج آيدن وسرديته ملاحظات عدة؛ أولها أن الواقع الإنساني والسياسي شديد التعقيد والتركيب، ومهما تطورت أدواتنا سيظل فهمنا قاصرا بدرجة تقل أو تزيد، وأن اعتبارات السياسة والإستراتيجية تظل حاكمة على غيرها من الاعتبارات الدينية والثقافية وغيرها، وأن الأفكار لا تموت بل تتبدل وتتحور وتغيب وتعود وهي في كل أحوالها سياسية في جوهرها ومآلها، وأن القيم لا تعيش في الفراغ وإنما في سياقات سياسية وتاريخية تحكمها المصلحة والواقعية والعقلانية، وأن فكرة صراع الحضارات بين المسلمين والغرب المفترضة ليست حقيقية من الناحية التاريخية، فحقيقة الأمر أنه متعلق بالمصالح السياسية والإستراتيجية أكثر من كونه أي شيء آخر.

مفهوم الحضارة كمفهوم مركزي

كان استخدام وتوظيف مفهوم الحضارة ومفهوم الحضارة الإسلامية مركزيا؛ فقد جادل مفكّرو الحراك الأممي الإسلامي بأن الحضارة الأوروبية لم يكن لها أن تبلغ ما بلغته لولا إسهامات مفكري العصر العباسي، وآمن هؤلاء الكتاب بأن هذا يثبت التوجه التقدمي للمسلمين بالفطرة، وردّ المستشرق إرنست رينان مجادلا أن إنجازات العصر العباسي حدثت رغما عن الإسلام وليس بسببه. وعلى العكس، فإن الحضارة الإسلامية -في الرؤية الإصلاحية- تلقّت الإرث اليوناني ودمجته بالقيم الإسلامية العقلانية والإنسانية، وفي العصر الإسلامي الذهبي، أسهمت في ظهور الغرب الحديث.

إن السردية التاريخية التي تؤسس للصدام بين العالم الإسلامي والغرب الحديث سردية غير تاريخية، وتعتمد على الأساطير إزاء ما يشكل الغرب والعالم الإسلامي.

وكان النقد الإسلامي الحداثي للانحطاط قاسيا ووجّه اللوم للمسلمين، مجادلا بأن التصوف والممارسات الدينية الشعبية كانا السبب في الانحطاط، ولذلك فالحل هو العودة إلى منابع الإسلام الصافية. وتُظهر هذه الحجج أن فكرة انحطاط العالم الإسلامي افترضت وجود عالم إسلامي، وبأثر رجعي لأنه إذا كان العالم الإسلامي في حالة انحطاط، فلا بد من أنه كان موجودا من قبل ومن ثم فإن هذه السردية العالمية -وهي بنت الجغرافيا السياسية والنظريات العلمية والسياسية في القرن الـ19- أُسقطت بأثر رجعي على القرون الماضية.

وتبنّى المفكرون المسلمون أفكار توينبي الحضارية في اللحظة نفسها التي كانت القومية فيها تجعل الخطابات الكولونيالية عن الهيراركية الحضارية تبدو مهجورة. وبعد الحرب العالمية الثانية اتفق المفكرون المسلمون بغض النظر عن مستويات التزامهم بالدين وميولهم السياسية المختلفة على أنه من المؤكد أن ثمة تمايزا حادًّا بين العالم الإسلامي والغربي، ومَن سيُعرفون لاحقا بالمفكرين الإسلاميين كانوا من أشد المعجبين بتوينبي، فبالنسبة لهم كان نموذج توينبي عن التاريخ العالمي حصنا ضد المركزية الأوروبية والقومية العلمانية.

إن السردية التاريخية التي تؤسس للصدام بين العالم الإسلامي والغرب الحديث سردية غير تاريخية، وتعتمد على الأساطير إزاء ما يشكل الغرب والعالم الإسلامي. فمثلا تشير النصوص التي تروي تفاصيل التنافس العثماني-الهابسبورجي إشارة مستمرة إلى "الحرب المقدسة"، وقد حشد كلا الطرفين ما استطاعوا من الخطاب الديني في مواجهة الكفار لكن الإشارات المعاصرة إلى حصار فيينا باعتباره صداما بين الإسلام والمسيحية تغفل عن حقيقة أن العثمانيين قاتلوا في هذه الحرب جنبا إلى جنب مع المجريين البروتستانتيين، وربما كان الجهاد جزءا من الخطاب المستخدم في بعض هذه الصراعات، لكن منطق الصديق المسلم والعدو المسيحي لم يكن موجودا.

إن العلاقات المعقدة بين فرنسا-الثورة، والإمبراطورية العثمانية، وولايتها المصرية، وسلطنة ميسور ترجّح أن ما ظهر بعد عقود باعتباره حدودا قاطعة وصلبة بين الغرب المسيحي والعالم الإسلامي- لم يكن حتميا. وفي منعطف القرن الـ19 كانت الكيانات السياسية الإسلامية تسلك على منوال الأسر الحاكمة والإمبراطوريات التي ظلّت تتطور على مدى ألف سنة، وكانت المنطقة الجغرافية التي عاش فيها المسلمون، الممتدة من مالي ونيجيريا إلى جنوب شرقي آسيا، غير متصلة وواسعة جدا فلم يكن لها أن يحكمها نظام سياسي واحد، وفي حدود عام 1800 كانت هناك أكثر من 30 أسرة حاكمة في الأراضي الإسلامية.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.