الإعلام التنموي.. قصص غير محكية

الكرملين يجيش معظم وسائل الإعلام الروسية

خطوات متعثرة
أسباب الغياب
أفكار للاستدراك 

في الوقت الذي تهتم فيه كبريات المؤسسات الاقتصادية والإعلامية الدولية بإصدار وتداول القوائم السنوية لأغنى 100 شخصية في العالم؛ ربما يكون آن الأوان لتوجيه اهتمامنا نحو الناس في الطرف الآخر. فهنالك الملايين من الوجوه المنسية والأصوات غير المسموعة والقصص غير المحكية في أسفل القائمة.

وبينما يعرف الجميع الأشخاص في أعلى القائمة الغنية، ويتم رصد ثرواتهم وتتبع أخبارهم الشخصية؛ فإنه قد حان الوقت لسماع أخبار القطاعات العريضة من البشر العاديين والفقراء على وجه الخصوص، ومعرفة كيف يعيشون في ظروف قاسية وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية الأساسية.

وهذا الحال يماثل تماما ما ذكره الرئيس التنزاني السابق جوليوس نيريري بقوله "بينما يتسابق الآخرون نحو القمر نحاول نحن الوصول إلى قرية"، في إشارة منه لتجاهل حال الملايين من البسطاء وسكان الريف.

خطوات متعثرة
قد يكون أحد الحلول الأساسية لتجاوز حالة التجاهل والإغفال المتعمد لقضايا التنمية المتساوية والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص في الحصول على الرعاية الصحية والتعليم والعمل والخدمات؛ يكمن في إيلاء اهتمام خاص بالإعلام التنموي. فالتنمية عملية معقدة، والإعلام التنموي هو الاستخدام المنهجي للإعلام للنهوض بتنمية المجتمعات.

ومع تعدد تعريفات الباحثين للإعلام التنموي؛ فإنها تُجمع -في مجملها- على أن الأساس المفاهيمي للإعلام التنموي يتخطى التعريف التقليدي للإعلام، من حيث تطلبه لعناصر المعلومات الدقيقة ومتابعة ورصد المشاريع التنموية والتحليل الموضوعي، واقتراح البدائل لتلبية احتياجات المجتمعات.

أحد الحلول الأساسية لتجاوز حالة التجاهل والإغفال المتعمد لقضايا التنمية المتساوية والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص في الحصول على الرعاية الصحية والتعليم والعمل والخدمات؛ يكمن في إيلاء اهتمام خاص بالإعلام التنموي. فالتنمية عملية معقدة، والإعلام التنموي هو الاستخدام المنهجي للإعلام للنهوض بتنمية المجتمعات

كما أنه يتضمن وضع الحلول لمجابهة تحديات التنمية وتحسين معيشة الأفراد، وذلك بتحفيز صياغة سياسات التنمية، وتبليغ المواطنين بالقرارات الحكومية ذات الصلة. وخلافا لفكرة التقارير الإخبارية التقليدية التي عادة ما تتناول الأحداث بصورة فوقية ومنفصلة؛ ينبغي أن يشجع الإعلام التنموي المشاركة الشعبية والمدنية بما يتفق مع المصلحة العامة.

وقد نشأ هذا المفهوم أولا في آسيا -وبالتحديد في الفلبين– ثم تطور إلى عقيدة متماسكة خلال الستينيات في آسيا والشرق الأوسط. وفي الفترة اللاحقة، اكتسب الإعلام التنموي أهمية متعاظمة في بقية العالم وعلى الأخص في بلدان العالم الثالث، حيث كانت البداية بتنظيم دورة تدريبي للصحفيين الاقتصاديين برعاية مؤسسة طومسون، وكان مقدم هذه الدورة آلان تشالكلي أول من صاغ مصطلح "الصحفي التنموي".

بعد ذلك بدأ تشالكلي في تنظيم سمنارات تخصصية معنية بالتنمية لتشجيع الصحفيين الفلبينيين على الإبلاغ عن المزيد من أخبار التنمية، وذلك بتركيزه على أن المهمة الرئيسية للصحفيين التنمويين تتمثل في إعلام القراء بالحقائق، وبعدها تأتي المهمة الثانية التي هي التفسير ووضع الحقائق في السياق المحيط بها، مع استخلاص النتائج ووضع الحلول حيثما أمكن.

وفي ظل السياق المذكور أعلاه؛ تَفرِض تساؤلاتٌ مهمةٌ نفسَها مثل: كم من هذه القيم المحددة للإعلام التنموي تنعكس في التغطية الإعلامية لقضايا التنمية بالبلاد العربية؟ وهل يقوم الإعلام العربي بواجبه تجاه القضايا التنموية على النحو المنشود خاصة وسط القطاعات الأكثر فقرا وحاجة وضعفا؟ وما هي نسبة أخبار التنمية مقابل غيرها من أخبار؟

ما هي خصائص محتوى أخبار التنمية إن وجدت؟ وكم مرة يظهر المسؤولون الحكوميون في أخبار التنمية مقابل القطاعات العريضة من المواطنين والمستهدفين من المشاريع التنموية؟ وهل يتم تناول قضايا الريف أكثر من المدن أم العكس؟ وهل تقدم قضايا التنمية بشكل مباشر مثل الخبر والتقرير أم بطريقة استقصائية تتضمن البحث والتحليل والتنقيب عن الحقائق؟

أسباب الغياب
لا شك أن الإعلام التنموي تحده قيود ومشاكل عن أن يُصبح ممارسة احترافية جالبة للثقة والمصداقية؛ فهو -بشكله الحالي- يفتقر إلى النشاط والحيوية في الطرح. والبيئة الإعلامية التي يعمل فيها يغلب عليها طابع الإثارة في الأخبار والكتابة السريعة، نتيجة لمطامح الملاك في تحقيق الانتشار والربحية والجماهيرية.

كما أن البيئة التنظيمية هي أيضا عامل مؤثر آخر يقيد الممارسة المهنية للإعلام التنموي، نتيجة لغياب الديمقراطية وحرية التعبير وتقييد الوصول إلى المعلومات في معظم البلدان العربية. وعلاوة على ذلك؛ ثمة قصور واضح في نتائج التنمية والمكاسب الاجتماعية، أدى إلى تقويض ممارسة الإعلام التنموي الذي عادة ما يتطلب المشاركة والشفافية، ويضع الحكومات في موضع المساءلة والمحاسبة.

ولا ريب أن استحواذ المضامين الأيديولوجية والسياسية والأمنية والترفيهية -التي تسعي وسائل الإعلام جاهدة لإشاعتها بين الأوساط الجماهيرية- قد قلصت إلى حد كبير المساحات الممنوحة للمضامين التنموية.

السلطة الحاكمة في كل البلدان العربية يشغلها الهاجس السياسي أكثر من الهم التنموي؛ فإن المحتوى السياسي يهيمن على معظم المساحات المتاحة في الوسائل الإعلامية. وبهذا تحولت وسائل الإعلام من وظيفتها التنويرية والرقابية إلى أداة من أدوات السلطة، مع اختزال المسألة التنموية في الخطاب السياسي كوسيلة للدعاية والحشد والتعبئة وكسب الرأي العام

وقد ذكر دكتور جليل وادي حمود في كتابه "الإعلام في البيئات المتأزمة.. العراق نموذجا" أن "البيئات المضطربة سياسيا تُلقي بظلالها على الحركة الإعلامية وطبيعة المضامين المنشورة، فتفعل الوظيفة السياسية إلى أقصى حدودها على حساب الوظائف الأخرى".

ولأن السلطة الحاكمة في كل البلدان العربية يشغلها الهاجس السياسي أكثر من الهم التنموي؛ فإن المحتوى السياسي يهيمن على معظم المساحات المتاحة في الوسائل الإعلامية. وبهذا تحولت وسائل الإعلام من وظيفتها التنويرية والرقابية إلى أداة من أدوات السلطة، مع اختزال المسألة التنموية في الخطاب السياسي كوسيلة للدعاية والحشد والتعبئة وكسب الرأي العام.

كما خلصت دراستان للبنك الدولي بعنوان: "الإعلام والتنمية: ما هي القصة؟" و"حق الحصول على الأخبار.. دور الإعلام في التنمية الاقتصادية"؛ إلى متانة الارتباط بين حرية الإعلام وتعدد الملكية والقدرة على الوصول إلى المعلومات، وبين خفض الفقر ومكافحة الفساد وتعزيز التنمية الاقتصادية. لأن الاستقلالية تحسّن الدور الرقابي للإعلام ومعروف أن بعض القرارات المتخذة في المجال السياسي لها نتائج تنموية.

لوسائل الإعلام سياساتٌ تحريرية مختلفة بشأن القضايا التي تستحق اهتمامها الأساسي وكيفية تقديمها للجمهور. ولا ريب أن المتابع للوسائل الإعلامية في العالم العربي يستطيع أن يدرك -ومن أول وهلة- أن التنمية وقضاياها تأتي غالبا في مؤخرة مشاغل هذه الوسائل.

وتتم في أحيان كثيرة تغطية قضايا التنمية بأسلوب إخباري ينعدم فيه البحث والتقصي والتحليل العميق. فمثلا، تعتبر الرعاية الاجتماعية وافتتاح المسؤولين الحكوميين للمرافق العامة، وتضخيم إنجازات التنمية والاقتباس الشديد من المصادر الرسمية؛ من الخصائص الرئيسية لتناول الإعلام للشأن التنموي.

وبينما تتنافس المؤسسات العربية الثقافية والإعلامية في إغداق الأموال الطائلة على إقامة المهرجانات الغنائية والسينمائية؛ تتبارى القنوات الفضائية على صناعة النجوم من الشباب العرب بين عشية وضحاها.

بل لم يسلم من تخصص القنوات الفضائية في حرفة صناعة النجوم هذه الأطفالُ الذين تم اقتصار أحلامهم المستقبلية في أن يصبحوا مغنين، بدلا من إقامة منافسات لتنمية المواهب العقلية والاختراعات والبحث العلمي.

أفكار للاستدراك
مثل هذا الواقع ليس بغريب على المعنيين بالإعلام؛ ذلك أن مناخ المنافسة بين الوسائل الإعلامية يدفع الكثير منها إلى التجاوب مع رغبات الجمهور الباحث في غالبيته عن مضامين الترفيه والتسلية، وخاصة في الوسط الجماهيري القلق كالجمهور العربي الذي يسوده قلق سياسي واقتصادي وأمني واجتماعي.

ثم إن وسائل الإعلام الرئيسية في العالم العربي ليست -إلى حد كبير- ذات صلة بالهموم اليومية لعموم الشعب، لأنها تسيطر عليها وتديرها الدولة أو نخب ذات رؤوس أموال بارزة، وعادة ما تربطها علاقات مصالح مع الحكومة. كما أن عدم رغبة وسائل الإعلام في الاستثمار -لتدريب منتسبيها في مجال الإعلام التنموي- يعوق بشدة وجود صحافة تنموية نابضة بالحياة.

لكي يزدهر الإعلام التنموي في البلدان العربية ويعمل أداة للعدالة الاجتماعية؛ هناك حاجة إلى تغيير جوهري في غرف الأخبار وإدارات التحرير والبرمجة. ويجب أن يبدأ المحررون في الترويج لفلسفة الإعلام التنموي في مقابل مواجهة الضغوط التحريرية للأخبار اليومية. وذلك بالتركيز على القصص ذات البعد الإنساني

وذلك لأن الكشف عن الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للتنمية عادة ما يتطلب معرفة السياق الإنمائي، والموازنة العامة المخصصة للقطاعات التنموية والإنتاجية، بالإضافة إلى متابعة ورصد أوجه الإنفاق الحكومي وعمل المنظمات الوطنية والدولية الناشطة في حقل التنمية.

ولتحقيق أهداف الإعلام التنموي؛ يجب إيجاد أساليب جديدة للممارسة الإعلامية، وتعريف وتحديد قيم جديدة للأخبار المتخصصة في التنمية، بما يجعلها جاذبة للجمهور.

هذا بالإضافة إلى ضرورة تدريب الإعلاميين في هذا النوع من الإعلام التخصصي، باعتبارهم المروجين للتغيير ولديهم المقدرة على إجبار السياسيين -عبر تحريك الرأي العام- على معالجة شواغل التنمية إذا لزم الأمر. ولذلك هنالك حاجة إلى بذل الجهد والابتكار لجعل التغطية الإعلامية لقضايا التنمية ذات صلة بالشعب ومثيرة لاهتمامه ومتابعته.

ولكي يزدهر الإعلام التنموي في البلدان العربية ويعمل أداة للعدالة الاجتماعية؛ هناك حاجة إلى تغيير جوهري في غرف الأخبار وإدارات التحرير والبرمجة. ويجب أن يبدأ المحررون في الترويج لفلسفة الإعلام التنموي في مقابل مواجهة الضغوط التحريرية للأخبار اليومية.

وذلك بالتركيز على القصص ذات البعد الإنساني بتوضيح نتائج ملموسة للرجال والنساء والشباب والأطفال، وكيف تغيرت حياتهم نحو الأفضل من جراء المشاريع التنموية الموجهة لهم. وقد تسهم قصص النجاح هذه في الشعور العام بالتفاؤل، مقابل حالة الإحباط العام الناتجة من تداول أخبار الحروب والأزمات السائدة في أجندة الأخبار العربية.

كما يمكن للمؤسسات الإعلامية أن تبادر بخلق شراكات مع المنظمات الدولية والوطنية العاملة في الحقل التنموي، لنشر الأنشطة والإنجازات والتقارير السنوية والدراسات التحليلية.

كما يمكنها إحداث التغيير عبر التناصر مع هذه المنظمات والحملات المشتركة للوصول إلى أهداف معينة، بزيادة الوعي وتحفيز الناس لإجراء تغييرات في سلوكهم، أو في المؤسسات الاجتماعية والسياسية الاقتصادية التي تحكم حياتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.