المهربون عدلوا خططهم.. تدفق اللاجئين وحادث بورغاس يربكان بلغاريا

فتح مقتل شرطيين على يد مهاجر غير نظامي ملف التهريب عبر بلغاريا باتجاه غرب أوروبا على مصراعيه.

مهاجرون إلى أوروبا عام 2016 عبر مسار البلقان (رويترز-أرشيف)
مهاجرون إلى أوروبا عام 2016 عبر مسار البلقان (رويترز-أرشيف)

عندما غادر محل إقامته في معسكر خرمانلي للاجئين عصر 22 أغسطس/آب 2022 لم يكن الفتى السوري عمر عدنان يتوقع أن يصبح بعد 3 أيام محط اهتمام الإعلام في بلغاريا التي لم تمض على لجوئه إليها إلا 10 أشهر.

لم تكشف التحقيقات الأولية ماذا فعل الفتى القادم من بلدة عين العرب (كوباني) أو أين أمضى وقته بين 22 و25 أغسطس/آب 2022، لكن في اليوم اللاحق حصل ما لم يكن بحسبانه عندما قفز اسمه إلى عناوين نشرات الأخبار المحلية بعد تداول مواقع التواصل شريطا قصيرا لا يشبه في قسوته إلا ما تعرضه شاشات هوليود.

يظهر الشريط الملتقط من كاميرا مراقبة مثبتة على مستديرة "ترابيزتسا" وسط مدينة بورغاس المطلة على البحر الأسود حافلة ركاب بيضاء أثناء تحركها بسرعة وخلفها تلمع أضواء سيارتي شرطة الحدود اللتين تطاردانها، وفي لمح البصر تتحرك سيارة ثالثة تتبع لشرطة المدينة من زاوية بالجهة المقابلة لاعتراض الحافلة وجها لوجه، في محاولة لإجبار سائقها على التوقف، لكن الأخير يواصل سيره مجتاحا بكامل اندفاعه سيارة الشرطة، ليقذفها إلى الأمام باتجاه كشك معدني محولا هيكلها إلى أشلاء.

قتل في الحادث المروع الشرطيان يوردان إلييف وأتاناس غراديف، وشيعا في اليوم التالي في المدينة الساحلية في جنازة حضرها مسؤولون رفيعون، على رأسهم رئيس الجمهورية رومن راديف الذي قدّم قبل التشييع تعازيه لأسرتي الشرطيين القتيلين.

وأعلنت ماريا نييكوفا محافظة بورغاس حدادا رسميا ليوم واحد، وكذلك فعل عمدة المدينة ديمتري نيكولوف، وأثناء تشييع الشرطيين انطلقت صفارات الإنذار في جميع أنحاء البلاد تحية لهما، كما وقف زملاؤهما في مراكز الشرطة في طول البلاد وعرضها دقيقة صمت إجلالا.

ترافق الاهتمام الرسمي بآثار الحادث مع اهتمام مماثل في الإعلام المحلي بخلفياته التي بدأت تفاصيلها بالتكشف تباعا، فتبين أن أسباب المطاردة التي جرت في تلك الساعة المبكرة من صباح الخميس كانت مقترنة بمفاجأة من نوع آخر، فقد عثر رجال الشرطة الذين هرعوا إلى المكان على 47 مهاجرا غير نظامي كانوا مختبئين تحت مقاعد الحافلة أثناء وقوع الحادث.

أعلن متحدث باسم شرطة بورغاس في اليوم التالي القبض على مواطنيْن سوريين كانا يتوليان قيادة الحافلة وتنفيذ عملية التهريب، أوقف أحدهما في بورغاس في اليوم ذاته، أما الآخر فألقي القبض عليه في بلدة برفوماي القريبة التي تمكن من الوصول إليها بعد نجاحه في الفرار من موقع الحادث والوصول إلى محطة القطارات الإقليمية، كان المقبوض عليه في برفوماي هو عمر نفسه.

عند مثوله أمام قاضي محكمة بورغاس مكبل اليدين والقدمين بالأصفاد في السادس من سبتمبر/أيلول 2022 نقلت الصحف البلغارية على لسان الفتى السوري عمر محمد علي عدنان اعتذارا لم ينتبه قائله إلى أنه لا يستقيم مع الادعاء بأنه في الـ15 من عمره، قال عمر "أعتذر للشعب البلغاري بأسره، لم أكن أريد أن يحدث هذا، كنت بحاجة للمال كي أستقدم والديّ إلى بلغاريا، لم أخطط لتحطيم المركبة".

لم تصمد ادعاءات عمر بشأن عمره لأكثر من الأيام العشرة التي استغرقتها مراسلات بلغاريا مع السلطات التركية والسورية عبر الإنتربول، فأفاد الادعاء العام البلغاري بأنه تلقى تأكيدات موثقة بأن الفتى السوري في الـ18، وأن بنية جسمه وكثافة شعر ذقنه تؤكدان ذلك.

كان بلوغ عمر من عدمه محط اهتمام قضاة محكمة بورغاس ونقطة فاصلة في سير إجراءاتها، بالنظر إلى أن تعديه السن القانوني لن يتيح له أفضلية محاكمته كقاصر تورط في قتل رجلي شرطة، وبالتالي حصوله على حكم مخفف، إلا أن أحدا في صوفيا لم يلتفت إلى ملابسات تورط فتى في عمره في مغامرة تهريب مهاجرين غير نظاميين لأجل المال، أو إلى قوله إن شخصا من داخل تركيا كان يدير عملية التهريب.

الفتى السوري عمر عدنان أثناء مثوله أمام محكمة بورغاس (مواقع التواصل الاجتماعي)

لم يصرف استحواذ فعلة عمر عدنان على اهتمام الإعلام أنظار أجهزة وزارة الداخلية عن باقي المتورطين في قضية حافلة بورغاس، فأعلن متحدث باسمها عن وجود شركاء لعمر في واقعة 25 أغسطس/آب، بينهم مواطنان بلغاريان لم يتم الكشف عن اسميهما ولم يمثلا أمام القضاة، هذا بالإضافة إلى سوريين آخرين ظهرا في جلستين متتاليتين في 28 أغسطس/آب والسادس من سبتمبر/أيلول خلال استجواب عمر في محكمة بورغاس.

في الجلسة الأولى مثل أحمد مفيد ذو الـ18 عاما الذي قيل إنه كان يحث عمر على زيادة السرعة، أما الآخر -الذي أوقف في مدينة ستارا زاغورا حيث يقيم مع عائلته- فكان رجلا أكبر سنا يدعى عبد الله عبد الله.

وخص مكتب المدعي العام الإقليمي الأخير في جلسة 28 أغسطس/آب بتعريف موسع، واصفا إياه بأنه "الشخص الذي أمّن الحافلة"، وأن لديه "معرفة فنية"، وأنه "شرح لعمر كيفية تسيير الرحلة" بعد دراسة الطرق المتاحة.

وختم مكتب الادعاء العام الإقليمي توصيفه لعبد الله بالقول "شارك السوري البالغ 49 من العمر في تنظيم عملية التهريب برمتها"، أما عن دواعي تورط هذا اللاجئ في مغامرة التهريب فنقلت الصحف عن عبد الله قوله في جلسة السادس من سبتمبر/أيلول أنه "انخرط في التهريب لأنه لم يكن يملك مالا وكان يتضور جوعا".

استقالات وملاحقات

مثلت فصول إحباط عملية تهريب مهاجرين غير نظاميين وضبط المتورطين بمقتل شرطيين صدمة للرأي العام والحكومة البلغاريين مشابهة للصدمة التي أصابت أوروبا عام 2015 بعد اكتشاف جثث المهاجرين الـ71 داخل الشاحنة المثلجة شرق النمسا بالقرب من حدود المجر وسلوفاكيا.

وأجرت صحيفة "تشاسا 24" (24 Chasa) الأوسع انتشارا استطلاعا في السادس من سبتمبر/أيلول تضمن أسئلة لقرائها حول أسباب كثافة عبور المهاجرين الحدود البلغارية، وسبقتها وزارة الداخلية البلغارية بتحرك عاجل لمعاقبة المسؤولين الرسميين المشتبه بتقصيرهم أو تورطهم في تسهيل مرور المهاجرين غير النظاميين عبر مسار البلقان الذي يمر بالبلاد وينتهي في ألمانيا.

أولى الخطوات اتخذت شكل التطهير الداخلي المحدود، فقد دعا الوزير إيفان ديمردجييف -وهو نائب رئيس الحكومة أيضا- مدير شرطة الحدود ديان مولوف للاستقالة رغم أنه لم تمض سوى بضعة أيام على تخفيض رتبته، وتولي نائبته مهامه بالوكالة، وهو ما استجاب إليه مولوف في اليوم التالي.

وفي الثاني من سبتمبر/أيلول تفقد ديمردجييف منطقة الحدود مع تركيا، وتعهد من هناك بتعزيز تكنولوجيا المراقبة المثبتة هناك بالمسيّرات، وبدوره تعهد وزير الدفاع ديمتر ستويانوف- الذي رافق ديمردجييف- باستقدام 500 عسكري خلال أسبوع، لتعزيز نظرائهم الذين يشاركون بمراقبة الحدود مع تركيا التي أقيم عليها منذ عام 2017 شريط شائك بطول 235 كيلومترا في منطقتي سترانجا ومالكو ترنوفو التابعتين لمحافظة بورغاس.

وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال إيفان ديمردجييف (موقع وزارة الداخلية)

وبعد 4 أيام كشف ديمردجييف للصحافة أن 10 من شرطة الحدود من العاملين في فرق إقليمية مختلفة على الحدود مع تركيا مشتبه في تورطهم بتهريب المهاجرين، وأن أجهزة الأمن الداخلي والادعاء العام تحقق معهم.

وقال "سنشرع في نقل الأشخاص الذين ليست لدينا أدلة كافية على تورطهم وإنما بيانات مقنعة".

كما فتحت وزارة الداخلية قناة للتنسيق ولعقد اجتماعات لتبادل المعلومات مع مكتب المدعي العام إيفان جيتشيف، الأمر الذي لم يسبق له أن حصل قبل "كارثة بورغاس" حسب تعبير يومية "تشاسا 24".

وفي 13 سبتمبر/أيلول جمع الرئيس رومن راديف في مكتبه رئيس جهاز الأمن القومي بلامن تونتشيف والمخابرات أنطون جيتشف ووزير الدفاع ديمتر ستويانوف ومديرة شرطة الحدود الجديدة روسيستسا ديمتروفا قائلا "يجب على الأجهزة المختصة إحكام الأمن على حدود بلغاريا ووقف موجة اللاجئين عبرها".

وذهب وزير الداخلية إيفان ديمردجييف بعد 10 أيام من الاجتماع الأمني رفيع المستوى إلى إعلان حالة الطوارئ لـ6 أيام في محافظات بورغاس وخاسكوفو ويامبول الحدودية لترميم الممرات الموجودة داخل الغابات، رابطا هذه الإصلاحات بـ"ضغط الهجرة غير النظامية".

طريق البلقان للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا
مسار البلقان للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا في جزئه الذي يمر في بلغاريا (الجزيرة)

أما نتائج متابعة وزارة الداخلية البلغارية لملابسات مقتل الشرطيين إلييف وغراديف فخرجت إلى العلن بلسان الوزير ديمردجييف في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني، وقال إن تحقيقا داخليا أثبت أن 16 من رجال شرطة المناطق الحدودية -بينهم 3 من قادتها- ارتكبوا مخالفات أو جرائم أدت إلى مقتل الشرطيين، وإن أحد قادة المناطق قدم استقالته.

وبين المخالفات التي عددها الوزير ضبط رجال الشرطة عمر عدنان وأحمد مفيد قبل يومين من الحادث وهما يحومان حول حافلة متوقفة قرب المنطقة الحدودية وداخلها بقايا طعام وماء.

وقال إن رجال الشرطة المعنيين أطلقوا سراحهما بعد ساعة "وبدون إثبات واقعة الاحتجاز بالوثائق"، وعدّد من بين المخالفات عدم إرسال إخطار في الوقت المناسب إلى الشرطيين اللذين حاولا إيقاف الحافلة.

A security guard at the main entrance of a refugee camp set in the town of Harmanly, some 250 km from Sofia, Bulgaria, 25 November 2016. According to media reports citing Prime Minister Boyko Borissov, around 300 migrants, six of them considered a threat to national security, have been arrested following violence at the camp. Around 1,500 migrants had rioted in Bulgaria's largest refugee camp, triggering clashes that left two dozen police injured and prompted the arres
مدخل مخيم خرمانلي للاجئين حيث كان يقيم عمر قبل تورطه في عملية تهريب لاجئين وقتل شرطيين (وكالة الأنباء الأوروبية)

مسعود وقناة بلوفديف

على الأرض اتخذ الاستنفار الرسمي البلغاري شكل تنظيم عمليات دهم وصفها الإعلام المحلي بـ"الشاملة" لما يشتبه بكونها مراكز إدارة لقنوات التهريب.

وقال مدعي عام بلوفديف رومن بوبوف إن وزارة الداخلية ومكتب المدعي العام عملا بجد للكشف عن القناة المسؤولة عن "كارثة بورغاس" ونفذ مفتشوها عملية تفتيش في مدينة سليفن وضبطوا 10 مشتبهين بتدبيرهم عمليات تهريب مهاجرين، وقاموا كذلك بمداهمة 6 عناوين في مدن بلوفديف وخرمانلي وسريديتس، وعثروا على وحدات التخزين الخارجية وأجهزة حاسوب وقوائم وأموال.

واستند ممثل الادعاء إلى إفادات شهود لاتهام السوري مسعود عبده -الذي أوقف في بلوفديف- بإدارة القناة التي نظمت تهريب مهاجري حافلة بورغاس.

وربط بوبوف كذلك بين توقيف عبده وضبط مجموعة مهاجرين في بلوفديف قبل ذلك بأيام بالقول إنه "العقل المدبر لعمليات تهريب المهاجرين"، ووجه له ولـ4 آخرين هم خليل عثمان والبلغار ملادين ديميتروف والزوجان بينكا ويوردان تشيرفينكوفي تهمة "توفير وسائل النقل والمأوى للمهاجرين من الحدود حتى بلوغهم بلوفديف، وإنشاء قناة تهريب لمهاجرين من سوريا وأفغانستان والمغرب".

أتت الوقائع الأمنية اللاحقة لاعتقال مسعود عبده (29 عاما) لتضعف حجج مدعي عام محكمة بلوفديف بمواجهته، وتدعم ما قالته محاميته زورنيتسا ديمتروفا بوجود "شيطنة مسبقة" لموكلها، وقبل العثور على أدلة تدينه.

ففي 20 سبتمبر/أيلول أوقفت في بورغاس (شمال شرق) شاحنة تقل 37 مهاجرا وفي اليوم ذاته أوقفت سيارة تقل 10 مهاجرين في فراتسا (وسط)، وفي 22 سبتمبر/أيلول أنقذ خفر السواحل البلغار قبالة شابلا (شمال شرق) مركبا يقل 38 مهاجرا، وفي 8 أكتوبر/تشرين الأول أوقفت شرطة صوفيا سيارة كانت تقل 7 مهاجرين في شارع مدريد، لكن سائقها نجح بالفرار، وبعد 10 أيام أوقفت شرطة المرور شاحنة مبردة على طريق تراقيا قرب مدينة بازاردجيك (وسط) تقل 75 مهاجرا، وفي اليوم التالي نشرت وزارة الداخلية تقريرها الشهري للمهاجرين غير النظاميين الذين تم ضبطهم في أنحاء البلاد، ليفيد بأن عددهم وصل في سبتمبر/أيلول وحده إلى 2822 مهاجرا موزعين حسب أماكن ضبطهم: 563 عند دخول البلاد، و381 أثناء الخروج منها، و1878 ممن صنفوا مقيمين بشكل غير قانوني.

** للاستخدام الداخلي فقط *** مواقع تروج للهجرة غير الشرعية عبر بلغاريا
موقع على فيسبوك يروج للهجرة غير النظامية عبر بلغاريا

لم يتوقف الأمر عند ثبوت زيادة مقدارها 23% في عدد المهاجرين الموقوفين خلال سبتمبر/أيلول مقارنة بالشهر السابق حسب الإحصاء الرسمي ذاته، فقد أثبتت عمليات توقيف المنخرطين في بلغاريا بالتهريب عبر مسار البلقان تنوعا في هوياتهم، وهو أمر يشير إلى قدرات شبكات التهريب الاستثنائية في التنظيم والاستقطاب، ففي 16 أغسطس/آب قبض في إيختمان (غرب) على بيلاروسي يهرب مهاجرين في سيارته الخاصة.

وكان سائق الشاحنة التي أوقفت قرب سردتس في 28 أغسطس/آب مقدوني الجنسية، وتم في السادس من سبتمبر/أيلول ضبط لاجئة أوكرانية وهي تهرب لاجئين في سيارتها في بورغاس.

وكشفت عملية مطاردة نفذتها شرطة المدينة ذاتها لسيارة في 20 سبتمبر/أيلول أن سائقها صربي الجنسية في الـ22 من عمره، في حين كان ربان القارب الذي ضبطه خفر السواحل البلغاري في 22 سبتمبر/أيلول قبالة سواحل شابلا (شمالا) تركي الجنسية.

أما سائق شاحنة المهاجرين التي أوقفت في فراتسا في 20 سبتمبر/أيلول فكان بلغاريا، وكذلك السائق الذي طاردته شرطة مرور بلوفديف إلى بزاردجيك فصوفيا في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، وكذلك الأمر بالنسبة لسائق شاحنة طريق تراقيا المبردة التي أوقفت في 18 أكتوبر/تشرين الأول وداخلها 75 مهاجرا، وكان لافتا أن آخر ثلاثة لم تذكر أسماؤهم في الإعلام.

ورغم هذه الوفرة والتنوع في هويات السائقين ووسائل النقل التي يستخدمونها في التهريب إلى داخل بلغاريا فإن كيفية اجتياز المهاجرين الشريط الشائك على الحدود بقيت غامضة بوجود رقابة أمنية دائمة وصارمة.

لكن تعليقا نشره في 29 أغسطس/آب موقع "دويتشه فيله" (Deutsche Welle) الألماني كشف بعض ما خفي في هذا الملف، فأشار إلى أن اجتياز الأسلاك الشائكة يتم أحيانا بناء على تواطؤ من حرس الحدود الذين "يتعمدون إطفاء الأنوار عمدا، وخلال نوبات محددة لبعض دوريات الحراسة".

وأثنى وزير الداخلية ديمردجييف على فحوى ما أوردته "دويتشه فيله" عندما قال في 23 سبتمبر/أيلول أثناء جولة له في منطقة الغابات الحدودية مع تركيا إن "أدلة جمعت حول تورط موظفين في الوزارة في تهريب المهاجرين"، وإن "حركة تنقلات ستُجرى لموظفي الوزارة لتأمين حماية أفضل للحدود".

المهاجرون الذين ضبطوا في حافلة بورغاس بعد اصطدامها بسيارة الشرطة (الفرنسية)

أما المرحلة اللاحقة على تحقق الخرق والدخول إلى قلب البلاد ومنها إلى حدود بلغاريا مع رومانيا شمالا أو صربيا غربا أو مقدونيا الشمالية في الجنوب الغربي فهي -كما أظهرت التحقيقات الأولية- مهمة الوكيل المقيم في بلغاريا.

وفي هذا الصدد، يقول مدعي عام بلوفديف في معرض اتهامه لمسعود عبده "يتصل الرجل من بلوفديف بالعديد من الأشخاص من خرمانلي وسريديتس وخاسكوفو لتزويده بالسيارات والسائقين، وغالبا ما يتم التعرف عليهم عشوائيا من أصل أجنبي، وهناك أيضا بلغار يلتقطون الأجانب الذين عبروا بالفعل بشكل غير قانوني".

أما وسائل النقل المستخدمة في التهريب فهي تتراوح -كما أثبتت حالات الضبط والتوقيف- بين السيارات والحافلات الصغيرة وشاحنات النقل المبردة، ويقدر المدعي العام ديمتر بهليفانوف قيمة عبور المهاجر غير النظامي من الحدود التركية إلى الحدود الصربية بـ3 آلاف يورو.

** للاستخدام الداخلي فقط *** مواقع تروج للهجرة غير الشرعية عبر بلغاريا
مواقع تروج للهجرة غير النظامية عبر بلغاريا

تلميحات غيورغييف

في بلد صنفته منظمة "الشفافية الدولية" في أسفل قائمة دول الاتحاد الأوروبي من حيث انتشار الرشاوى يلح السؤال عن هويات المستفيدين من هذه الآلاف الثلاثة.

ويمكن للباحث عن هويات ومراكز المستفيدين من أموال تهريب اللاجئين العثور على الإجابة أو بعضها في ما تبثه القنوات التلفزيونية المحلية رغم احتمال وجود دافع سياسي وراء التصريح ذاته.

يقول وكيل وزارة الداخلية السابق كالين غيورغييف لبرنامج صباحي بثته قناة "نوفا" في 24 سبتمبر/أيلول "لا ينخرط في قنوات تهريب المهاجرين موظفو وزارة الداخلية وحدهم، بل موظفو جهاز أمن الدولة "دي إيه إن إس" (DANS) وموظفو وكالات المخابرات السرية الوطنية والأجنبية، ليس ضروريا أن نشيطن وزارة الداخلية وحدها" .

وأعطى غيورغييف مثالا أكثر تحديدا بقوله "تناهي إلى سمعي أن رحلة عمل واحدة للموظف تكسبه سيارة، رحلتان تساويان ثمن شقة، ما يحصل عبارة عن سوق ومشكلة منهجية".

وعلى الرغم من جرأتها وتلميحها إلى حجم الفساد المتعلق بتهريب المهاجرين داخل أجهزة الدولة فإن أقوال غيورغييف تكتسب واقعيتها من حقيقة أن مشاركة مواطنين بلغار في أعمال الجريمة المنظمة داخل البلاد وخارجها ليست حدثا مستجدا، فقبل 6 سنوات حوكم في بلغاريا بهذه التهمة 3 من مواطنيها في إطار قضية الشاحنة المبردة التي عثر على جثث 71 مهاجرا داخلها على حدود النمسا والمجر، وأتت المحاكمة بعد اعتقال تسفيتان تسفيتانوف وميتودي غيورغييف وقاسم حسن صالح (اللبناني الأصل) في النمسا للاشتباه بضلوعهم في تهريب البشر.

وكيل وزارة الداخلية البلغاري Kalin Georgiev - الصحافة البلغارية
غيورغييف: تهريب المهاجرين سوق ومشكلة منهجية (الصحافة البلغارية)

لم يغب تغلغل الجريمة المنظمة في بلغاريا -خاصة في ملف المهاجرين- عن أذهان رجال الدولة، ففي اليوم الذي وقع فيها حادث بورغاس وقف وزير الداخلية ديمردجييف على بعد أمتار من الحافلة، وقال للصحفيين "إن المهربين أعلنوا الحرب على الدولة البلغارية، وإنها سترد عليهم بكامل طاقتها".

أما الرئيس رومن راديف فاعتبر في اليوم التالي بعد مشاركته في تشييع شرطيي بورغاس أن مقتلهما كان" نتيجة طبيعية لسنوات من غياب المحاسبة لأولئك المتورطين في تنظيم عمليات تهريب المهاجرين والتغطية عليها داخل البلد وفي أوروبا".

لكن أي إجراء بحق أي من الموظفين الحكوميين المتورطين في تسهيل عمليات التهريب لم يظهر إلى العلن حتى ساعة إعداد هذا التحقيق، وقد خاطبت الجزيرة نت كلا من المكتبين الصحفيين لرئاسة الحكومة ووزارة الداخلية البلغاريتين، سائلة عما قامت به الوزارة بحق المتورطين في عمليات التهريب وما تنوي القيام به في المستقبل للسيطرة على موجة المهاجرين إلا أنها لم تتلق أي إجابة.

الرئيس البلغاري رومن راديف: غياب محاسبة المهربين سهّل موت الشرطيين (رويترز)

غير أن موظفين حكوميين من مستويات دنيا لم يفتهم وجود حلول من شأنها ضبط موجة عبور المهاجرين غير النظاميين من تركيا إلى بلغاريا وصولا إلى دول غرب أوروبا عبر التفاهم مع أنقرة.

الحل السياسي

يقول إيليان يانتشيف رئيس بلدية مالكو ترنوفو في تصريح بعد حادثة بورغاس مباشرة إنه ما لم تتفاوض بلغاريا مع تركيا للحد من ضغط المهاجرين "فلن يكون هناك تغيير".

وتوقع عمدة البلدة الواقعة على الحدود مع تركيا باستمرار المشكلة "ما لم يجلسوا (حكام بلغاريا) لإجراء محادثات مع الجارة تركيا والتوقيع على اتفاق".

وكان وكيل وزارة الداخلية السابق غيورغييف قد نصح قبل ذلك بالتفاهم مع تركيا لحل أزمة المهاجرين، وقال في تغريدة نشرت في 29 أغسطس/آب من العام الماضي "لا يمكن للسياج أن يوقف اللاجئين ولا المعدات العسكرية، بوجود ما يقارب 10 آلاف من ضباط شرطة الحدود و10 آلاف من الدرك فإن الحل العسكري لأزمة اللاجئين لن يسهم إلا في تفاقمها، حل الأزمة يتم من خلال الدبلوماسية، فعندما يأتي آلاف اللاجئين إلى حدودنا ماذا سنفعل بهم؟ هل نلاحقهم؟ هل نطلق النار عليهم؟".

مهرب يعلن استعداده لنقل اللاجئين الى حدود بلغاريا واليونان عبر فيسبوك (مواقع التواصل الاجتماعي)

يعكس قلق السياسيين البلغار من تدفق اللاجئين تصورا غير معلن عنه بأن بلدهم هو الضحية الحالية لموجة اللجوء بعد انسداد مسار البلقان الآخر الذي يبدأ بتركيا ويمر في اليونان بتأثير اتفاق أنقرة مع الاتحاد الأوروبي عام 2016، ثم انتشار جائحة كورونا.

قفزة بالأرقام

وتقول أرقام أعلنتها وزارة الداخلية البلغارية في 18 سبتمبر/أيلول 2022 إن 103 آلاف و998 شخصا حاولوا الدخول من تركيا إلى بلغاريا بصورة غير قانونية منذ بداية العام.

وفي العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني قال الوزير ديمردجييف خلال جلسة استجواب في البرلمان إثر مقتل رجل شرطة حدود بلغاري بنيران أطلقت من الجانب التركي" لغاية التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني حاول 143 ألفا و477 مهاجرا دخول البلاد، وخلال العام 2021 كله بلغ الرقم 40 ألفا".

وبينما يضع المسؤولون البلغار نصب أعينهم الالتحاق بفضاء شنغن وما يترتب عليه من ضبط لحدودهم الخارجية فإن العلاجات التي يقترحونها لأزمة اللجوء المتنامية تتخذ طابع الحلول الجزئية لأزمة دولية ومتعددة الأبعاد.

يقول الصحفي والباحث في أكاديمية العلوم البلغارية ماريان كاراغيوزوف في تقييمه موقف بلغاريا الحالي من مشكلة تصاعد موجة اللجوء إنه نظرا لتدني مستوى المعيشة فيها "فإنها باتت تمثل بالنسبة للاجئين دولة ترانزيت، حيث لا يفضل أغلبيتهم البقاء والإقامة فيها، ويحاولون الوصول إلى الدول الأوروبية التي يمكن أن يحسنوا فيها أوضاعهم ويحصلوا على تعليم وعمل".

ماريان كاراغيوزوف ( صحفي وباحث في أكاديمية العلوم البلغارية)
ماريان كاراغيوزوف: بلغاريا جزء من ضوابط دبلن (مواقع التواصل الاجتماعي)

وحول التزامات هذه الدولة المصنفة الأفقر بين دول الاتحاد الأوروبي تجاه اللاجئين، يضيف كاراغيوزوف قائلا للجزيرة نت إن "بلغاريا ملزمة باتباع سياسيات الاتحاد الأوروبي بخصوص الهجرة والتعامل مع اللاجئين، فبلغاريا جزء من "ضوابط دبلن" التي تنص على أن كل من يصل بصورة غير قانونية إلى أراضي الاتحاد الأوروبي يمكن إعادته إلى أول بلد آمن، فإذا كان هنالك شخص فار من بلد يشهد حربا فليس من الضروري أن يصل إلى بلد مزدهر اقتصاديا، فهو يملك الحق في الحصول على وضعية لاجئ في أي بلد آمن ولا يشهد صراعات حربية".

ويضيف كاراغيوزوف "لذا فالأشخاص الذين يصلون إلى أراضي بلغاريا لهم الحق بالحصول وضعيات مختلفة، بينها الوضع الإنساني ووضعية لاجئ، وهي تصنيفات حقوقية تعطي الحق بالحصول على دعم من الدولة، حيث يُعطى لهم الحق بالعمل ويتاح لهم سكن حكومي".

هل تقوم السلطات البلغارية بالوفاء بهذه الالتزامات بحيث تغني لاجئين مثل عمر عدنان وأحمد مفيد عن الانحراف والانخراط في عالم الجريمة؟ توجهنا بالاستفسار عبر البريد الإلكتروني إلى الوكالة الحكومية للاجئين المكلفة بهذا الملف عما إذا كان وجود خلل في سياسات الادماج والرعاية المخصصة للاجئين أتاح لعصابات التهريب توظيفهم ضمن شبكاتها؟ لكننا لم نحصل على إجابة.

فريق العمل 

تحرير وإعداد: محمد العلي، ديانا حسين

خرائط وتصاميم: قسم الوسائط

المصدر : الجزيرة