صوت الميتال.. عندما يفقد قارع الطبول حاسة السمع ويزدهر في الصمت

"صوت الميتال" فهم جديد لما يعنيه السير على إيقاع مختلف عندما تتوقف الموسيقى المألوفة إلى الأبد

الممثل البريطاني الباكستاني الأصل ريز أحمد بفيلم "صوت الميتال" (مواقع التواصل)

كان الناقد السينمائي المخضرم روغر إيبرت يُعرّف الأفلام بأنها "مادة لإثارة التعاطف" تعاطف لا تثيره القصة فقط، ولكن أداء الشخصية أيضا.

وهو ما سنلحظه بوضوح في تقديم الممثل البريطاني الباكستاني الأصل ريز أحمد نجم مسلسل "ذا نايت أوف" (The Night of) دراما إنسانية مُلهمة لا يمكن تصورها لحياة الصمم، في فيلم "صوت الميتال" (Sound of Metal) الذي عُرض في 4 ديسمبر/كانون الأول 2020، بعد أن قضى 7 أشهر في مجتمع للصُم، ليتعرف على نهج حياتهم ويتعلم لغة الإشارة.

ورغم أن الفيلم سيتم تصنيفه غالبا كدراما عن الصمم، لكن الإدمان أيضا يُعد جزءا لا يمكن تجاهله في الحكاية، فالبطل كان مدمنا وتعافى وظل صامدا يقاوم الانتكاس لمدة 4 سنوات، انغمس خلالها في ضوضاء الطبول حتى كاد يمزقها، في محاولة لتعطيل شياطين الإدمان عن معاودة إسقاطه في الهاوية. لكنه بدلا من ذلك أتلف سمعه وأصبح في أشد الحاجة للتركيز قبل أن يدمر نفسه.

مُحرق وقوي

"صوت الميتال" أول فيلم روائي طويل للمخرج داريوس ماردير، كتبه مع شقيقه أبراهام، ورُشح لجائزة غولدن غلوب، ووصفه الناقد أوين جليبرمان بأنه "مُحرق وقوي".

نشاهد فيه، على مدى 130 دقيقة، مقطوعة إبداعية رائعة رسمت فيها عيون ريز أحمد ولغة جسده قوس شخصيته بدقة، تجعلنا نشعر في أحيان كثيرة بالارتباك والدوار واليأس.

فقد تعلم قرع الطبول قبل شهور من التصوير ليأتي دوره بهذا العمق، ودون مشهد واحد خاطئ، بأداء "يضعه على رأس قائمة الممثلين لأي منتج" بحسب الناقد بريان تاليريكو.

لم يُضيع ماردير وقتا لدمجنا في القصة، فبعد دقائق شاهدنا روبن (ريز أحمد) قارع طبول موسيقى الهيفي ميتال (Heavy metal music) يرافق صديقته المغنية لو (أوليفيا كوك). والكاميرا مُثبتة على صدره العاري أثناء حفلة موسيقية، في لحظة يكتشف فيها أن سمعه قد تلاشى.

ليجسد حالة من الخوف والإنكار، وهو يستمع إلى الطبيب الذي أخبره أنه فقد حوالي 90% من سمعه، ومن المرجح أن يفقد الباقي قريبا. لكن روبن يرفض الاعتراف بذلك، ويستمر في قرع الطبول حتى يفقد سمعه تماما ويصاب بالهلع، ويجعلنا ماردير نشاهده وهو يفقد سمعه كما لو كان يحدث لنا نحن.

لنأتي إلى الجزء الأهم في رحلة روبن، عندما صاحبته "لو" إلى رجل يُدعى جو (بول راسي) وهو محارب قديم فقد سمعه أثناء حرب فيتنام، ويدير نوعا مختلفا من مرافق إعادة التأهيل.

يخبر قارع الطبول بأن هذا ليس مكانا لعلاج سمعه، لكنه مكان لتعليمه كيفية العيش بدونه. بدءا من مشاهدة الأطفال الصم وهم يتعلمون، ووصولا إلى الجلوس وكتابة أفكاره ومشاعره، كروح مضطربة تبحث عن الهدوء والسلام.

لكن فقدان روبن سمعه ليس مجرد إعاقة، بل ضياع هويته، وحبيبته، والموسيقى التي تُعد وسيلته التعبيرية والإبداعية، كما أنها علاج لإدمانه على المخدرات، وتحصينا له من العودة إليها.

ورغم ذلك يحثه جو على تغيير نهج تفكيره وإقناع نفسه أنه ليس معاقا، وبناء هوية جديدة له من خلال الانغماس في مجتمع الصم وتبني ثقافتهم، ليصبح شخصا مختلفا عما كان عليه.

غير أن الأحداث تأخذ مسارات خشنة، تدفع روبن إلى تصرفات يائسة تهدد بإفساد تقدمه، عبر تفاصيل صغيرة تشير إلى صراعه الداخلي المعقد وهو يكافح لتحديد أولوياته. حتى اللحظات الأكثر دفئا في الفيلم تبدو مشوبة بعدم الارتياح الذي قد ينهار في أي لحظة.

يقول أحمد، لموقع "غولدن غلوب" (Goldenglobes) "أعتقد أن مشكلة روبن أنه كان يستخدم علاقته مع صديقته كضمادة لجراحه، وكان يستخدم هدفه كقارع طبول كضمادة لجراحه. وعندما تمزقت تلك الضمادات أصبح كحيوان جريح". إلى أن يتحقق الثقل العاطفي لهذه الدراما المؤثرة، من قدرة البطل على الوصول إلى "فهم جديد لما يعنيه السير على إيقاع مختلف، عندما تتوقف الموسيقى المألوفة إلى الأبد" بحسب الناقد إريك كون.

الصوت نجما

النجم الآخر في الفيلم هو الصوت، حيث جاء الظهور الأول لماردير مثيرا للإعجاب، باستخدامه أفضل تصميم للصوت. فهو لا يحدثك عن الإعاقة لكنه يحاول أن يجعلك تشعر بها وهو يأخذك في رحلة داخل ذهن فاقد سمع من خلال استخدام تقنية الصوت.

فيغمرك بإحباطات روبن المعقدة لفقدانه الاتصال بالعالم من حوله، محولا الموسيقى التصويرية إلى قرقرة خافتة، وأصداء مكتومة، وأصوات مبهمة، وكأنه يعلمك كيف تكون أصما.

ففي اللحظة التي يظهر فيها روبن على الشاشة، يرفع ماردير مستوى الصوت لينقل حرارة العرض الصاخب. ثم يحاصرك بحالته السمعية، فتسمع أحيانا أصواتا مكتومة أو خدوشا أو محادثات غير مفهومة، دون أن يسمح للصمت بالهيمنة، أو يصيبك بالتشتت.

تظل كاميرا ماردير متزامنة مع عصبية روبن المتوترة وهي تؤرخ لتأقلمه البطيء مع حياة الصمم (مواقع التواصل)

ثقافة وليس إعاقة

تظل كاميرا ماردير متزامنة مع عصبية روبن المتوترة، وهي تؤرخ لتأقلمه البطيء مع الحياة بعد الصمم. كشخص متقلب قادر على بث الحنان، لكنه في نفس الوقت أكثر قربا إلى سكان الكهوف.

فهو يرفض أن يسجن نفسه في ناد للمعاقين، لتتحول حياته إلى كابوس مرعب. يرفض هويته الجديدة، لأنها جعلته يشعر أن أيامه صارت بلا معنى أو قيمة، ويخضع لعملية زراعة القوقعة، فيقع في صراع نفسي جديد، ويحن إلى هدوء الصمم، بعد إيمانه أن بإمكانه ممارسة فنه دون حاسة السمع.

يقول ريز أحمد لغولدن غلوب "كنت أعتقد أن الصمم إعاقة، لكنني اكتشفت أنه هوية وثقافة يمكن أن نتعلم منها الكثير، إنه أسلوب حياة آخر".

ثقافة الصُم، طبقا للأمم المتحدة، هي "مجموعة من الأفكار والقيم والعادات والفنون المشتركة في مجتمع الصُم، الذين يرفضون وصفهم كمعاقين ويستخدمون لغة الإشارة للتواصل".

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية