فنون الثورات.. كيف عبّر السودانيون عن غضبهم بالريشة والألوان؟

ساهم الفنانون بمختلف قطاعاتهم في التأكيد على المبادئ الأساسية للثورة

جدارية في أحد شوارع الخرطوم توثق لشهداء الثورة (الجزيرة)

مثلت الفنون بأشكالها المتعددة مشهدًا ملفتا في الحراك الثوري بالسودان خلال السنوات التي سبقت إسقاط نظام حكم الإنقاذ، واستمر هذا المشهد بفعله المؤثر إلى لحظة انتهاء مظاهرة الخميس 21 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بل كانت الوقود الفعلي للحراك الثوري بتنظيم خطواته وترسيخ آلياته؛ تمسكًا بسلميته ورسم معالم شعاراته.

ويظل شعار الثورة الرئيسي الذي التفت حوله الجماهير السودانية في حراك ديسمبر/كانون الأول 2018 وإلى الآن "حرية سلام وعدالة"، وهو قول الشاعر محمد الحسن سالم حميد الذي أثر في الوجدان الجمعي للسودانيين.

من المظاهر الملفتة في المظاهرات التي امتلأت بها شوارع العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث أنها كانت عبارة عن لوحة فنية متكاملة، بدءًا من الإعداد لها الذي استغرق أسابيع.

وأسهم الفنانون بمختلف قطاعاتهم في تأكيد المبادئ الأساسية للثورة، مستفيدين من منصات التواصل الاجتماعي -ومنصة فيسبوك تحديدا- في نشر أعمالهم، سواء الملصقات الفنية أو مقاطع الفيديو ذات المحتوى الشعري والغنائي الداعم للحراك المؤكد على سلميته واحتفائه بالتنوع السوداني بعيدًا عن الجهوية والقبلية.

وضح جليا أثر الفعل الفني وتراكمه خلال السنوات الماضية وتجربة العامين الأخيرين في مظاهرة الخميس الماضي، وتسيَّد المشهد العام للمظاهرات في مختلف شوارع الخرطوم والمدن الأخرى. ورصدت الجزيرة نت إلى جانب الجداريات المنتشرة في الطرقات واللافتات والملصقات بتعدد أشكالها ورسائلها؛ أن هناك نقاطا على مسافات محسوبة نُصبت فيها مكبرات للصوت تنطلق منها الأغنيات الثورية التي تلهب حماس الجماهير، فكان الفنان الراحل محمد وردي موجودًا بكثافة في أغلب تلك النقاط، وهو يصدح بأغنية: "أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقٍ".

لوحة تشكيلية لإسراء تجسد فكرة استشهاد قصي حمدتو (الجزيرة)

تلك الأغنية التي خلدت انتصار ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، وظلت باقية في وجدان الشعب السوداني يستعيدها متى استدعى الأمر، أو ينطق صوته متغنيا بأشعار الشاعر الراحل محجوب شريف: "يا شعبا لهبك ثوريتك".

فيتزود بها المتظاهرون قليلا قبل المضي في طريقهم إلى نقاط التجمع المحددة، كأنها محطات وقود معنوي يزيدهم صلابة وقوة وإصرارا.

يقول الشاعر الأصمعي باشري -من جماعة مشافهة النص الشعري- للجزيرة نت إن حركة ذكرى أكتوبر/تشرين الأول المجيدة تُعد مواكب شِعريّة بامتياز، وفنية، تشكلت كل هتافاتها ولافتاتها من الشعر الثوري، سواء كان قديما أو جديدا.

ويضيف باشري أن "الثوار اجترحوا في لحظتهم التاريخية الراهنة أيضا لغة أخرى، وأعني بالضرورة الفضاء الذي تفجرت فيه البيانات والشعارات والأهازيج، فمثلا كانت بيانات الأجسام الثقافية والفنية مثل شعراء المشافهة، أو التشكيليين أو الدراميين، أو حتى منشورات المبدعين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تلك التي تشاركت الهم مع أجسام المهنيين؛ كلها قدمت سفرا مختلفا في خطابه ودلالاته ومجازاته؛ أشبع الوجدان الثوري بالعديد من الصور الجماليّة، سواء كانت شعرية أو فنية، وتدعو لقيم الحق والعدل والسلام، كل شعارات السلمية والحراك جاءت من جهة الشعر والفنون، والدرامتوج".

وقال الأصمعي -الذي كان موجودًا في مواكب مدينة الخرطوم بحري- إن أكتوبر/تشرين الأول وأبريل/نيسان والاعتصام وسلسلة طويلة من ذاكرة جمالية وثورية تدفقت في شوارع بحري منذ الساعة الواحدة ظهرا وحتى الثامنة مساء، كانت طاقة ثورية كبيرة، حفزتها ذاكرة إبداعية وشعرية وجمالية وثقافية.

التشكيل العنوان الأبرز

الحضور القوي للفنانين التشكيليين كان مميزًا ومؤكدًا على دورهم الذي برز في السنوات الأخيرة، لينفعل به ويتفاعل معه عامة الناس، خاصة بعد أن تزينت شوارع الخرطوم والمدن الأخرى بالجداريات، معلنة خروج الفن إلى الشوارع بدلا من الصالونات المغلقة.

الفنانة التشكيلية إسراء سعيد قالت للجزيرة نت إن الفن البصري أسرع وصولا للمتلقي لتوصيل معلومة أو التعبير عن حادثة، فالألوان وحدها تجذب المتلقي لمعرفة ما يحدث. وأضافت أن رسم الشهداء والعلم الذي يرفرف والكنداكة؛ أكثر الأشكال التي أوصلت فكرة معنى ثورة. وأكدت أن كل التشكيليين عملوا كتلة واحدة للتعبير عن ذلك في كل شوارع السودان وكل المدن، ووضعوا بصماتهم في الجداريات التي ملأت الشوارع.

وانتشرت للفنانة إسراء إحدى اللوحات التي جسدت فيها فكرة استشهاد "قصي حمدتو" في حادثة فض اعتصام القيادة العامة، تلك اللوحة التي عرضت في مراسم بالعاصمة البريطانية لندن، وقالت إنها رسمتها تأثرًا بحادثة استشهاده رغم أنها لم تره سوى في مقطع فيديو قبل فض الاعتصام.

من الحياد إلى التورط

يقول الفنان التشكيلي فيصل تاج السر إن الفنانين أول من التقط ذبذبات الثورة وحولوها إلى أعمال غرافيتية ظلت تتجدد كل يوم، مشيرًا إلى إسهام التشكيليين ضمن القطاعات الفنية الأخرى في تشكيل وجدان الثورة. وقال تاج السر إن التشكيليين استغلوا منصات التواصل الاجتماعي بشكل كبير قبل انطلاق الحراك الأخير في نشر أعمالهم الفنية للإسهام في رفع درجة الوعي وترسيخ آليات الحراك السلمي بشكل أساسي.

الكنداكة...فتاة الثورة السودانية
الفنانة إسراء سعيد ترى أن الكنداكة أكثر الأشكال التي أوصلت فكرة معنى الثورة (الجزيرة)

وأضاف "الثوار كانوا يحتاجون نوعا من توصيف الفعل الثوري، وهو ما أسهم فيه الفنانون بشكل كبير ومؤثر، إذ درجوا على إنتاج أعمال جديدة بشكل مستمر استخدموا فيها كل التقنيات". وقال في حديثه للجزيرة نت إن الجداريات حولت الفن من الحياد إلى التورط الفعلي في العمل الثوري، لأنها معروضة أمام عيون المارة باستمرار، وعززت ثقة الفنانين في أنفسهم وفي قدرتهم على التأثير في تشكيل الوعي الشعبي، مشيرًا إلى الغضب الشعبي الذي أعقب مسح جداريات القيادة العامة بعد فض الاعتصام، وما يعنيه من تأثير ذلك النوع من الفن.

مضت المظاهرات في طرقاتها المتعددة وهي تحمل كل ذلك الزخم التي سيظل باقيًا على جدار الوطن، ومثلما ظلت تلك الأشكال الفنية راسخة في الوجدان الشعبي السوداني، ها هي تضيف إليه جديدا ليزداد ترسخًا، وتكون منبعًا يلجأ إليه من أجل تحقيق أحلامه بالحرية والسلام والعدالة.

المصدر : الجزيرة