فرحة ناقصة.. أسيران مقدسيان محرران يلتقيان على الإفطار الرمضاني لأول مرة منذ أعوام

يعتبر شهر رمضان الحالي استثنائيا على كافة الأصعدة للأسير مالك بكيرات إذ التأم شمله مع عائلته الممتدة على مائدة الإفطار وعلى رأسهم ابنته لينا التي رأت النور بينما كان والدها يقضي الشهور الأولى من حكمه، ليتحرر ويجدها على وشك الحصول على شهادة الدبلوم.

التأم شمل العائلة لأول مرة على مائدة الإفطار منذ 19 عاما (الجزيرة نت)

لم ينل السجّان وما مارسه عليه من صنوف التعذيب الجسدي والنفسي من ابتسامته التي استقبل بها كافة المارين من أمام منزله أثناء انتظاره وصول الجزيرة نت للحديث عن أجواء شهر رمضان الأول الذي يمضيه حرا بعدما قضى 19 عاما داخل السجون الإسرائيلية.

في بلدة صور باهر ارتدت المنازل حلّتها الرمضانية لكن في منزل عائلة الأسير المحرر مالك بكيرات بدت البهجة مضاعفة، إذ تكاد والدته لا تصدق أنها ترى نجلها البكر يجلس أمامها لتناول طعام الإفطار، وتحثه بين الفينة والأخرى على تناول هذا الصنف وتذوق ذاك.

مالك الذي جلس بجوار والده يتنقل ببصره بين الجالسين على مائدة الإفطار فيمازحهم تارة ويتطرق لتفاصيل الطعام في السجون تارة أخرى، أفصح للجزيرة نت عن عدم رغبته بتذكر أي من تفاصيل السجن المؤلمة، إلا أن سيرة الأسرى الذين تركهم خلفه لم تنقطع عن لسانه.

ولد مالك بكيرات عام 1979 في القدس ونشأ بها، وعام 2001 اعتقل وحكم عليه بالسجن لمدة 19 عاما تنقل خلالها بين عدة سجون قبل أن يفرج عليه في اليوم الأخير من عام 2020 المنصرم من سجن النقب الصحراوي.

مالك مع والديه لأول مرة على مائدة الإفطار (الجزيرة نت)

رمضان استثنائي هذا العام

ويعتبر شهر رمضان الحالي استثنائيا على كافة الأصعدة إذ التأم شمل مالك مع عائلته الممتدة على مائدة الإفطار، وعلى رأسهم ابنته لينا التي رأت النور بينما كان والدها يقضي الشهور الأولى من حكمه، ليتحرر ويجدها على وشك الحصول على شهادة الدبلوم.

تحدث مالك بإسهاب عن الطريقة التي يتهيأ بها الأسرى داخل السجون لشهر رمضان قائلا "نتهيأ على قدر ما هو متاح وأبرز ما نحضره فرز لجنتين للطعام واحدة لإعداد طعام الإفطار والأخرى للسحور، واللجنة الثقافية هي الثالثة التي تقع على عاتقها مسؤولية تنظيم مسابقات خاصة وأمسيات رمضانية يتخللها الحديث عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وما وقع من أحداث في التاريخ الإسلامي خلال رمضان".

ضحك مالك مطولا ثم قال "أما مسؤولية الإنشاد والأذان والإمامة فوقعت على مدار 19 عاما علي، ولم يكن يروق للشباب في السجون سوى صوتي".

وعن وجه الاختلاف بين طعام إفطار هذا العام والأعوام السابقة، قال مالك "طيلة فترة سجني كنت أقول للأسرى دائما حتى عندما أتناول طعاما لذيذا أعددناه فإن به طعم السجن، والآن أقول مهما كان الطعام الذي أتناوله بسيطا فإن به طعم الحرية".

وخلال نبشه لذكرياته في رمضان داخل السجون، قال مالك إن ظروفا قاسية مرت على الأسرى خلال هذا الشهر، ويذكر منها رمضان منذ 18 عاما عندما نقل مع مجموعة من الأسرى بشكل فجائي أول أيام رمضان من سجن هداريم شمال البلاد إلى سجن بئر السبع في جنوبها بإجراء تعسفي.

"أُدخلنا إلى قسم قديم مهجور تملؤه الصراصير والبراغيث، كنا 10 أسرى جلبوا لنا صحنا واحدا من الحساء ورغيفين من الخبز وصحن أرز لنا جميعا، ومكثنا على هذا الحال لمدة أسبوع".

الشيخ ناجح بكيرات مع نجله المحرر مالك ووالدته وابنته لينا وخطيبها الأسير المحرر أحمد سرور (الجزيرة نت)

خلال حديثنا معه وصل الأسير المقدسي المحرر أحمد سرور من بلدة جبل المكبر والذي عقد قرانه مؤخرا على لينا ابنة مالك، ولاحظنا مدى الغصة التي تسكن قلبيهما مع التمني بأن يذوق رفاقهم الأسرى فرحة الحرية وأن يُكتب لهم قريبا لم الشمل مع عائلاتهم في شهر رمضان بالتحديد.

اعتقل أحمد سرور (27 عاما) عام 2014 وحكم عليه بالسجن لمدة 7 أعوام، ليتحرر مطلع شباط/فبراير المنصرم، وعن أجواء رمضان التي يقضيها لأول مرة هذا العام خارج القضبان قال:

"قبل 4 أيام تناولت طعام الإفطار مع أهلي للمرة الأولى، وتفاجأت بهم يقولون إنهم كانوا يدعون لي بالفرج قبل تناول طعام الإفطار كل عام فلمن سيدعون هذا العام؟ فردت والدتي فورا وقالت: أحمد روّح وترك خلفه آلاف الأسرى سندعو لهم كل يوم قبل الإفطار حتى يبزغ فجر حريتهم".

وعن الطبخة التي طلب أن تزين مائدة الإفطار أول يوم، ضحك وقال "أهل جبل المكبر يشتهرون بالمنسف وأنا طلبتها في اليوم الأول من رمضان".

لينا تجلس للاستماع لحديث المحررين اللذين سيرافقانها على مائدة الإفطار هذا العام والأعوام المقبلة، ثم تغادر باتجاه المطبخ لمساعدة جدتها أم مالك في تجهيز طعام الإفطار، وهناك قالت: رمضان 1442 هو أول رمضان أعيشه بهدوء وسعادة، والدي بجواري ولم يعد مقعده فارغا على المائدة، وأحمد تحرر وجمعني الله به بعد رفقته لوالدي في السجن وهذا يعطيني راحة استثنائية.

أم مالك بكيرات ورغم أن علامات الإرهاق بدت واضحة على وجهها، إلا أنها تتنقل بنشاط وتضع اللمسات الأخيرة على مائدتها التي تقول إن مالك أجمل ما يزينها هذا العام.

الأسير المحرر مالك بكيرات خلال دعاء جماعي قبل الإفطار مع والديه (الجزيرة نت)

حقبة زيارة السجون انتهت

"هذا رمضان الأول الذي لن أزور به السجون بعدما كانت وجهتي على مدار عقدين، ورغم إرهاق الزيارة إلا أنني كنت أرى راحتي بزيارة ابني، أنا سعيدة جدا وممتنة لأن الله أطال بعمري لأرى مالك مجددا بيننا وأتمنى أن تقر كل أعين الأمهات برؤية أبنائهن الأسرى معهن وبينهن".

لم تفارق البسمة وجهها طيلة فترة وجودنا في منزل ابنها المحرر، صمتت للحظات ثم قالت "صوت مالك مميز.. الآن هو من يؤم بنا في صلاة الفجر وأحيانا في صلاتي العشاء والتراويح إذا لم يتوجه لأدائها في الأقصى.. كان المجلس ناقصا بدونه واكتمل الآن والحمد لله".

والده الشيخ ناجح وصف تحرر نجله بالانتصار، وقال إن حياتهم تغيرت في اللحظة التي وضع بها مالك قدمه خارج السجن، وحثّ أهالي الأسرى على التحلي بالصبر الذي يحول المحن إلى منح حتما.

عند دخولنا هذا المنزل الهادئ كانت تصدح حنجرة الأب بالأذكار التي رددها الآخرون خلفه قبل الإفطار، وعند مغادرتنا كان مالك يؤم والده وأشقاءه بصلاة المغرب، في حين تطل والدته بين الفينة والأخرى عليه لتفقده، لندرك المقولة التي تؤمن بها الأمهات بأنهن يعتبرن أبناءهن أطفالا مهما كبروا.

المصدر : الجزيرة