شعار قسم ميدان

خفايا عقلك الثاني.. الأسرار العجيبة لميكروبات جهازك الهضمي

"المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء".

(الحارث بن كلدة)

ربما لم يتوقَّع الحارث بن كلدة، الطبيب العربي من العصر الجاهلي، أن مقولته تلك سوف تصمد أمام كل التحديات لقرون طويلة. ربما كان يقصد شيئا مختلفا بكلامه، لكن في السنوات العشر الأخيرة، ظهر في علم الطب اكتشاف جديد ثوري قلب موازين فهمنا للعديد من وظائف الجهاز الهضمي.

 

طالما تعلَّمنا أن وظيفة هذا الجهاز هي هضم الطعام وتزويد الجسم بما يحتاج إليه من مغذيات فقط، لكن الأمر يفوق ذلك بكثير، فبينما تجلس الآن أمام هاتفك تقرأ هذه الكلمات، هناك تريليونات الكائنات الدقيقة تسكن أمعاءك، وتلعب دورا شديد التعقيد في الحفاظ على وظائف عقلك قبل جسدك!

مستعمرات في أحشائك

 

الميكروبيوتا (Microbiota) هي كلمة لاتينية مكوَّنة من جزأين، ميكرو تعني متناهي الصغر، وبيوتا مشتقة من كلمة "Bio" وتعني الحياة، والكلمة كلها تُعبِّر عن ميكروبات ميكروسكوبية الحجم تعيش وتتغذى داخل كل كائن حي، سواء كان حيوانا أو نباتا، أو إنسانا بالطبع. تُقدَّر أعداد الميكروبات التي تسكن أمعاء الإنسان بـ10-100 تريليون ميكروب، ما يفوق عدد خلايا جسمك ذاته، ويسكن معظمها في الأمعاء الغليظة أو "القولون"، ويصل وزنها مجتمعة إلى كيلوغرامين كاملين من وزنك، تصوَّر هذا! (1) (2).

بدأت دراسة هذه الكائنات منذ أكثر من عقد من الزمان، ووُجِد أن التركيب الحيوي الخاص بها يتغير باستمرار، ولا يستقر حقا قبل ثلاث سنوات من عمر الإنسان، ويكون قبلها مضطربا وغير ثابت بالمرة، ويتأثر تنوُّعه بالعديد من العوامل كنوع الولادة (طبيعية أم قيصرية) والرضاعة (طبيعية أم صناعية) (3). ويبدو أن ثراء هذه الكتلة الحيوية وتنوُّعها في البالغين يعتمد أساسا على نوعية الطعام الذي نتناوله، حيث تتغيَّر فصائل الميكروبات في أمعائك بعد تناولك شطيرة هامبرجر، وتعود للتغيُّر مرة أخرى عندما تتناول صحنا من السلطة (4).

 

تتكوَّن الميكروبيوتا من العديد من فصائل البكتيريا والفطريات والفيروسات، وهذا ليس بالشيء السيئ، حيث إنها تلعب دورا تكافليا، ففي حين أنها تتغذى على بعض طعامك، فإنها في الوقت نفسه تعمل على حماية جسمك من هجمات الميكروبات الأخرى المسببة للأمراض (5). في السنوات الأخيرة، تصاعدت أصوات العديد من الخبراء ليُعلنوا بثقة أن الميكروبيوتا تلعب دورا أكبر وأهم في صحة الإنسان، بل وقد تكون مسؤولة -إذا أُصيبت بخلل ما- عن العديد من الأمراض النفسية والأمراض العصبية الانحلالية (Neurodegenerative diseases)، حتى إنها سُميت بالعقل الثاني (Second brain).

العقل الثاني

 

الانتفاخ والمغص والتقلُّصات والإسهال والإمساك، أعراض يعرفها جيدا مَن يعانون من القولون العصبي، وبينما يظل السبب المحدد لهذا المرض مجهولا، فإن نوعيات الطعام الذي تتناوله والضغط العصبي يلعبان دورا واضحا في حِدَّة الأعراض (6). قد تشعر ببطنك تنتفخ وتتقلص إذا كنت تمر بيوم عصيب في العمل أو تعاني توترا حادا بسبب امتحان قريب، يعني ذلك أن هناك صلة مباشرة بين عقلك وأمعائك، يُسمى ذلك بمحور الدماغ-الأمعاء (Gut-brain axis)، وهو اتصال عصبي وكيميائي ثنائي الاتجاه بين بعض مناطق الدماغ وبين أمعائك وما يسكنها من ميكروبات (7).

في ضوء هذا الاتصال، وجدت العديد من الدراسات (8) رابطا قويا بين الضغط العصبي وبين ظهور الأعراض المعوية، وبفحص تركيب الميكروبيوتا في الوقت نفسه، وُجد أن المصابين بالقولون العصبي يمتلكون تنوُّعا أقل في فصائل الميكروبات التي تسكن أمعاءهم، مما يُشير إلى أهمية تنوُّع الميكروبيوتا.

فئران مكتئبة

 

يبدو إذن أن الضغط العصبي يؤثِّر بدرجة ما على تركيب ومدى تنوُّع الميكروبيوتا، وهذا يؤدي بالتبعية إلى تغييرات في بعض المركبات الكيميائية ينتج عنها أعراض تشبه أعراض الاكتئاب. في دراسة شائقة أجراها معهد باستير (9)، بالاشتراك مع المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحث الطبي (Inserm) والمركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، أحضر الباحثون مجموعتين من الفئران، إحداهما تعاني من أعراض اكتئابية والأخرى سليمة، وزرعوا براز الفئران المصابة، الذي يحتوي على الميكروبيوتا الخاصة بها، داخل أمعاء الفئران السليمة، وكانت النتيجة أن المجموعة الأخيرة ظهرت عليها الأعراض الاكتئابية نفسها التي عانت منها المجموعة الأولى.

 

تعزو الدراسة، التي نُشرت في دورية "نيتشر كوميونيكيشنز" (Nature communications)، هذا التأثير إلى نقص مركب يُسمى الإندوكانابينويد (Endocannabinoid)، حيث لوحظ أن نسبته المنخفضة في الفئران المصابة بأعراض اكتئابية يرافقها غياب فصائل معينة من البكتيريا في أمعاء هذه الفئران، ما يرجِّح أن غيابها هو السبب الأساسي في نقص هذه المركبات. وبعد حقن الفئران المصابة بفصائل البكتيريا الناقصة، لوحظ زيادة إنتاج مادة الإندوكانابينويد واختفاء الأعراض الاكتئابية.

التعاطف، فهم الذات، الأخلاق والاستقرار العاطفي، هكذا حدَّد العلماء الخصائص التي تجعل منك شخصا حكيما (10)، وما يُثير الانتباه هنا هو أن الحكمة ليست شيئا معنويا خالصا ولكنها تمتلك جذورا عضوية ملموسة داخل العقل. وفي حين أن محور الدماغ-الأمعاء يتصل بمراكز المشاعر والتفكير واتخاذ القرار في المخ، دفع هذا مجموعة من الباحثين من كلية طب سان دييغو – كاليفورنيا، لإجراء دراسة فريدة من نوعها، للبحث بعمق عن العلاقة بين الحكمة والوحدة وبين الميكروبات القابعة في الأمعاء.

 

تضمَّنت الدراسة (11) التي نُشرت في دورية "فرونتيرز إن سايكايتري" (Frontiers in psychiatry)، 187 مشتركا قاموا بتعبئة مقاييس ذاتية عن الوحدة، والحكمة، والتعاطف، والدعم الاجتماعي والمشاركة الاجتماعية، وأُخِذت عينات براز من المشاركين لدراسة الميكروبيوتا الخاصة بكلٍّ منهم ومدى ثرائها، وأيضا للمقارنة بين تركيب الميكروبيوتا بين المشتركين. جاءت النتائج لتُشير بوضوح إلى أن الأشخاص ذوي التنوُّع الميكروبي الأكبر كانوا أكثر حكمة وتعاطفا، وأفضل على مستوى المشاركة المجتمعية، وأقل وحدة، على عكس أصحاب التنوُّع الميكروبي الأقل.

 

الأسباب التي تربط الحكمة والوحدة والميكروبيوتا لا تزال غير واضحة، ولكن ما نعرفه أن الوحدة قد تكون سببا في نقص التنوُّع الميكروبي، وهذا النقص يجعل الجسم مُعرَّضا أكثر لخطر الميكروبات المرضية الخارجية، إذ تضعف خطوط دفاعه الأولى الموجودة في الأمعاء، لذا يكون الأشخاص الوحيدون أكثر عُرضة للإصابة بالأمراض عن غيرهم، وقد وُجد هذا خاصة في المشاركين الأكبر سِنًّا من غيرهم، وهو ما يعني أن كبار السن ربما يصابون ببعض الأمراض فقط لأنهم وحيدون.

نصف إنسان ونصف ميكروب

 

لو صحَّ أن نعتبر الإنسان نتاج الحمض النووي الخاص به (DNA)، الذي يجعله متفرِّدا عن غيره من بني جنسه، فلا يمكن أن نهمل الميكروبيوم، أي الحمض النووي الخاص بالميكروبيوتا، التي تُحوِّل الإنسان فعليا إلى كائن فائق (Supraorganism)، أي مجموعة من الكائنات الحية التي تعيش وتعمل معا مثل كائن حي واحد. في السنوات الأخيرة، بدأت الدراسات تنظر إلى الميكروبيوم باعتباره جزءا من الجينوم البشري (12)، إذ إن جينات تلك الميكروبات تؤثِّر بشكل ما على وظائف جسم المضيف الذي تعيش بداخله.

 

في الدراسة المنشورة (13) في دورية "نيتشر" (Nature)، وُجد أن جينات الميكروبيوتا الخاصة بمجموعة الفئران السمينة تُعزِّز من قدرة هذه الميكروبات على استخلاص الطاقة من الطعام عسير الهضم، وامتصاص المزيد من الدهون التي تُخزَّن في الأنسجة الدهنية وتؤدي إلى السمنة، وذلك على عكس الفئران الأنحف.

 

وعند زراعة الميكروبيوتا من كلتا المجموعتين في مجموعة ثالثة معقمة من الفئران (Germ-free mice)، جاءت النتائج لتؤكِّد الاستنتاج السابق؛ الفئران التي تلقَّت ميكروبات الفئران السمينة أصبحت أكثر عُرضة للسمنة هي الأخرى، على عكس تلك التي تلقَّت ميكروبات الفئران الأنحف.

كوب زبادي في اليوم

 

ماذا لو كنت تعاني من نقص في التنوُّع الميكروبي في أمعائك؟ وماذا لو تسبَّب ذلك في إصابتك بمرض ما؟ يبدو أن هناك حلًّا واعدا لهذه المشكلة يتمثَّل في المعززات الحيوية (14)، أو البروبيوتيك (Probiotics)، وهي كائنات حية دقيقة كالبكتيريا يمكن تناولها باعتبارها نوعا من العلاج، وتوجد خاصة في الزبادي واللبن الرائب والطعام المخمَّر كالمخللات وبعض المكملات الغذائية.

 

في دراسة (15) أُجريت على 60 مريضا يعانون من ألزهايمر، قُسِّم المرضى إلى مجموعتين، أُعطيت إحداهما كوبا من اللبن العادي والأخرى لبنا معزَّزا بأربعة أنواع من البروبيوتيك، يوميا ولمدة 12 أسبوعا، وقيست الذاكرة والقدرات العقلية في المجموعتين قبل وبعد الانتهاء من التجربة. أوضحت الدراسة التي نُشرت في دورية "فرونتيرز إن إيجينج نيوروساينس" (Frontiers in aging neuroscience) أن المجموعة التي تلقَّت البروبيوتيك جاءت نتائجها أفضل من المجموعة الأخرى فيما يخص اختبار الذاكرة والقدرات العقلية.

 

وفي دراسة أخرى صغيرة (16) نُشرت في دورية "جاستروإنترولوجي" (Gastroenterology)، وأُجريت على مجموعة من السيدات اللاتي لا يعانين من أي أمراض نفسية أو أمراض بالجهاز الهضمي، وُجد أن مجموعة منهن كن أكثر هدوءا عند رؤية صور لوجوه غاضبة أو مرتعبة، بعد 4 أسابيع من تناول اللبن المعزز بالبروبيوتيك مرتين يوميا، مقارنة بالمجموعة التي لم تتلقَّ اللبن المعزز، وذلك من خلال فحص نشاط المخ أثناء عرض الصور باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي.

تفتح هذه النتائج نافذة مُحتمَلة لعلاج الكثير من الأمراض المستعصية في المستقبل، خاصة مع وجود دراسات تُشير إلى أن أمراضا مثل التصلُّب الضموري والسكري من النوع الثاني والتوحُّد ترتبط بشكل أو بآخر بمحور الدماغ-الأمعاء.

 

ورغم ذلك، لا توجد إجابة حاسمة حتى الآن عن سؤال العلاقة بين الميكروبيوتا وأمزجتنا أو ذاكرتنا أو قدراتنا العقلية في العموم أو حتى شخصياتنا، ما نراه إلى الآن ليس أكثر من ميل بحثي يرصد هذه العلاقة، لكنه بحاجة إلى الوقت كي يستوضح جوانبها المختلفة، كشف كهذا قد يساعد حتما في علاج الكثير من الأمراض، أو تحسين حياتنا. هذا العلم المثير جدا للانتباه ما زال وليدا.

——————————————————————————

المصادر

  1. The human microbiome project: exploring the microbial part of ourselves in a changing world
  2. 20 Things you Didn’t Know About the Human gut Microbiome
  3. المصدر السابق
  4. Dominant and diet-responsive groups of bacteria within the human colonic microbiota
  5. Role of the Microbiota in Immunity and inflammation
  6. Irritable bowel syndrome – Symptoms and causes
  7. The Microbiota-Gut-Brain Axis | Physiological Reviews
  8. The Microbiome and Irritable Bowel Syndrome – A Review on the Pathophysiology, Current Research and Future Therapy
  9. Gut microbiota plays a role in brain function and mood regulation
  10. Words to the wise: Experts define wisdom
  11. Wisdom, loneliness and your intestinal multitude
  12. The human microbiome project: exploring the microbial part of ourselves in a changing world
  13. An obesity-associated gut microbiome with increased capacity for energy harvest
  14. Probiotics: What You Need To Know | NCCIH (nih.gov)
  15.  Effect of Probiotic Supplementation on Cognitive Function and Metabolic Status in Alzheimer’s Disease: A Randomized, Double-Blind and Controlled Trial
  16. Consumption of Fermented Milk Product With Probiotic Modulates Brain Activity
المصدر : الجزيرة