جائزة نوبل للسلام تذهب لنوفايا غازيتا مرة ثانية.. كيف بنى ديمتري موراتوف الصحيفة الروسية "الأشجع"؟

الصحفي الروسي الحائز على جائزة نوبل للسلام ديمتري موراتوف رئيس تحرير "نوفايا غازيتا" (الأوروبية)

للمرة الأولى منذ عام 1935 منحت لجنة جائزة نوبل للسلام -قبل يومين- الجائزة لصحفيين هما ديمتري موراتوف رئيس تحرير "نوفايا غازيتا" (Novayagazeta)، والصحفية الفلبينية ماريا ريسا "لجهودهما في حماية حرية التعبير، والتي هي شرط مسبق للديمقراطية والسلام الدائم".

وقالت باربرا تريونفي -المديرة التنفيذية للمعهد الدولي للصحافة- إن "هذا اعتراف بالقيمة المذهلة لنوع الصحافة التي تقوم بها ماريا ريسا وديمتري موراتوف، وهي صحافة تكشف عن الأخطاء وتقف في وجه المستبدين وتدعم حقوق الشعب بشجاعة، على الرغم من المضايقات المستمرة".

وتعود قصة الجريدة الروسية "نوفايا غازيتا" مع جائزة نوبل لأكثر من ربع قرن، ففي عام 1993، استخدم رئيس الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف جزءًا من أموال جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها للمساعدة في إنشاء الصحيفة، وشراء أول أجهزة حاسوب لها، لتحصل -بعد ما يقرب من 30 عامًا- على جائزة نوبل للسلام عبر رئيس تحريرها ديمتري موراتوف.

وفي مقاله بموقع ذا كونفرزيشن، كتب الأكاديمي بجامعة شيفيلد البريطانية إيليا يابلوكوف، المحاضر في قسم دراسات الصحافة والوسائط الرقمية، معتبرا أن الجائزة مثلت مفاجأة مرحبا بها لدعم الصحافة الروسية المستقلة "التي تعرضت لضغوط مستمرة خلال 21 عامًا من حكم فلاديمير بوتين" بحسب تعبيره.

صحافة روسية جديدة

بفضل إصلاحات البيريسترويكا السياسية لغورباتشوف وتحرير الصحافة خلال حقبة الثمانينيات، أصبح الصحفيون الاستقصائيون أبطالًا قوميين في أواخر عهد الاتحاد السوفياتي، إذ كشفوا عن جرائم النظام في الماضي، وتتبعوها في أرشيفات فتحت لاحقا، وكشفوا عن الفساد بين البيروقراطيين الذين أساؤوا استخدام سلطتهم لإثراء أنفسهم.

كان هذا هو السياق الذي ارتفعت فيه مسيرة موراتوف المهنية. في عام 1987، غادر مسقط رأسه للانضمام إلى صحيفة كومسومولسكايا برافدا في موسكو. اتخذت جريدة الشباب الشيوعي هذه موقفا نقديا تجاه النظام السوفياتي في سنواته الأخيرة، واعتبرت صوتا قياديا في حملة البيريسترويكا.

كانت كومسومولسكايا برافدا من بين الصحف التي وقفت ضد الانقلاب العسكري عام 1991، بقيادة كتلة محافظة من الحكومة الشيوعية للإطاحة بغورباتشوف. شهد انقلاب أغسطس/آب نهاية الاتحاد السوفياتي، الذي انهار في ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، وأدى إلى عهد جديد للصحافة.

في عام 1992، غادر موراتوف كومسومولسكايا برافدا بسبب خلاف حول مستقبل الصحيفة. كان موراتوف من بين أولئك الذين دافعوا عن الصحيفة باعتبارها وسيلة إعلامية استقصائية، بينما سعى منافسه فاليري سونغوركين إلى تحويلها إلى صحيفة شعبية لكسب المال، وهو ما نجح فيه.

بدأ موراتوف وفريق من زملائه في نشر صحيفة إخبارية يومية اسمها (Novaya Ezhednevnaya Gazeta)، التي تغطي السياسة والفساد وجرائم الحرب في الشيشان، وفي عام 1995، تم تعيين موراتوف رئيسًا للتحرير وحصلت الصحيفة على اسمها الحالي: نوفايا غازيتا (الجريدة الجديدة).

أيام مظلمة

في مقابلة حول كتابه الجديد، قال الكاتب إن موراتوف أخبره بأن فريق التحرير بالكاد تمكن من تغطية نفقاتهم في التسعينيات. لم تكن هناك أموال لدفع الرواتب، وكل ما حصل عليه الأعضاء خارج واجباتهم الصحفية تم استثماره مرة أخرى في الصحيفة.

في العقد الأول من القرن الـ21، جاء شريان الحياة من الدعم المالي من غورباتشوف وألكسندر ليبيديف، المصرفي ورجل الأعمال الروسي الذي اشترى صحيفة "إيفنينغ ستاندرد" اللندنية عام 2009. ودعم الاثنان رغبة موراتوف في الحفاظ على قيادة نوفايا غازيتا كصحيفة استقصائية.

أصبحوا أيضًا أصدقاء لموراتوف، حيث شاركوا سعادته في أوقات النجاح، وحزنه على الخسائر العديدة التي تكبدتها الصحيفة. غالبًا ما يُطلق على نوفايا غازيتا اسم الصحيفة "الأشجع" في روسيا، ولديها أحد أعلى معدلات قتل الصحفيين بين وسائل الإعلام الروسية.

بين عامي 2000 و2021، قُتل 6 من صحفيي نوفايا غازيتا على خلفية عملهم الصحفي، ولا سيما آنا بوليتكوفسكايا في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2006 منذ ما يقرب من 15 عامًا من اليوم الذي منح فيه موراتوف جائزة نوبل، بحسب الكاتب.

وقتلت بوليتكوفسكايا بالرصاص في مصعد منزلها بموسكو، وكانت ناقدة حادة لسياسة الكرملين في الشيشان ولانتهاكات حقوق الإنسان.

وفي عام 2009، بعد مقتل محام وصحفي يعمل لصالح الصحيفة على يد نشطاء من اليمين المتطرف، أنشأ موراتوف بروتوكولًا أمنيًا لحماية الصحفيين الذين كانوا يجرون تحقيقات خطيرة، ومع ازدياد استبداد النظام الروسي، أصبح الإبلاغ عن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان وقتل منتقدي بوتين أكثر خطورة، يضيف الكاتب.

ومع ذلك، كشف مراسلو نوفايا عن مدى تورط الدولة في مقتل بوريس نيمتسوف في فبراير/شباط 2015. وقد قُتل نيمتسوف، وهو أشد منتقدي بوتين في ذلك الوقت، بالرصاص أمام الكرملين ولم يتم العثور على أي شخص بارز مذنب في ارتكاب الجريمة.

وقامت إيلينا ميلاشينا، كبيرة مراسلي صحيفة نوفايا غازيتا في الشيشان، بتوثيق جرائم قتل وأبلغت عن جرائم القتل بدم بارد لخصوم زعيم الشيشان رمضان قديروف. وواجهت اعتداءات جسدية وتهديدات بالقتل.

مستقبل أكثر إشراقا؟

ويقول الكاتب إن موراتوف شخصية فريدة من نوعها. إنه لا يخشى أبدًا التحدث علانية والدفاع عن الصحفيين والأصوات المعارضة، مع العلم أنه هو أو فريق التحرير الخاص به قد يتعرضون للهجوم. وهو قائد شبكة إعلامية تساعد الصحفيين الروس في المناطق الخطرة على مواصلة عملهم تحت الحماية الرمزية لموراتوف.

لقد صنع بالتأكيد مئات الأعداء الأقوياء الذين سيكونون سعداء بالتخلص منه، لكنه في الوقت نفسه، كوّن آلاف الأصدقاء عبر جميع قطاعات المجتمع الروسي، بما في ذلك كبار السياسيين وضباط إنفاذ القانون والأثرياء.

وتساعده صداقاته مع سماسرة السلطة على الإبحار في ما يسميه الكاتب "المياه العكرة" للسياسة الروسية دون خسائر فادحة لسمعته، وقد أثار أيضا غضب أعضاء متشددين في المعارضة الروسية وبعض المراقبين الغربيين لروسيا، الذين يعتقدون أنه باع روحه للكرملين.

لا تعكس صورة موراتوف هذه بشكل كامل نطاق دوره المهم في وسائل الإعلام الروسية، حيث يستخدم موراتوف نفوذه وعلاقاته ليس لإثراء نفسه، ولكن للحفاظ على قوة الملاذ الأخير للصحافة الاستقصائية داخل روسيا.

ستجعل جائزة نوبل موراتوف أكثر نفوذا على الصعيد المحلي وستكسبه المزيد من الأعداء بين النخبة، الذين قد يزعمون لاحقًا أنه خان روسيا للحصول على التمويل الأجنبي والجوائز. ومن الناحية الرمزية، ستعمل هذه الجائزة على تمكين جميع الصحفيين الاستقصائيين الروس الذين يقاتلون من أجل حياتهم ومهنتهم وسط مناخ متوتر.

المصدر : الجزيرة + ذا كونفرسيشن