المتحف الفلسطيني في مؤتمره السنوي.. القدس من وجهة نظر ثقافية

القدس في الوعي الفلسطيني ومركزيتها في الحقل الثقافي، والمقاومة التي تشتبك مع الحياة اليومية العادية فيها؛ نقاط أساسية شغلت الباحثين المشاركين في المؤتمر السنوي الثاني للمتحف الفلسطيني في رام الله، الذي أقيم -افتراضيا- طيلة أول أمس الأربعاء، تحت عنوان "القدس التي هنا، القدس التي هناك: إضاءات معرفية وتحولات مجتمعية".

المؤتمر يواصل البحث الذي أطلقه المتحف في 2017 من خلال معرضه "تحيا القدس"، واستكمله في معرضه الحالي المتواصل حتى فبراير/شباط المقبل، بعنوان "طُبع في القدس: مُستَملُون جُدد"، حيث كانت أبرز مخرجات ونتائج النقاش الموازي لهذين المعرضين أن هناك أكثر من قدس واحدة في الوعي الفلسطيني الجمعي؛ فهناك "القدس التي هنا، وهذه تُعبّر عن المخيال الفردي والجماعي وتمثّله، والقدس التي هناك، تلك البعيدة المُحاطة بالجدار والحواجز العسكرية، التي لا يستطيع الفلسطينيون في الشتات والضفة الغربية وقطاع غزة الوصول إليها".

شارك في جلسات المؤتمر الثلاث الباحثون والأكاديميون: عصام نصّار، وسليم أبو ظاهر، وأحمد أسعد، وداود الغول، وأريج صبّاغ-خوري، وغسان حلايقة، وفيروز شرقاوي، وعبد الرؤوف أرناؤوط، وعلي مواسي، وياسر قوس، وكاميليو بوانو، وناهد حبيب الله وآخرون، لكن من يتابع الأوراق يكشف نوعا من التكرار في مضامينها باستثناء بعض المداخلات.

مركزية القدس في الثقافة

تحت عنوان "استعادة لمركزية القدس في الثقافة والفنون الفلسطينية"، تحدث الأكاديمي عصام نصّار عن البحث في جينيالوجيا المكان، وتناول القدس كمدينة، قائلا "تكمن أهمية القدس لنا كفلسطينيين في أنها المدينة المركزية، فالمواقع الدينية والأثرية لا تخلق من المكان مدينة، فلا هي مرتبطة بالبيوت ولا بالأسواق ولا بالحارات، فالموقع الديني يمكن أن يكون في أي مكان؛ رأس جبل مهجور أو في مدينة، لكن المدينة بدون سكانها وحراكها الاجتماعي لا يمكن أن تكون مدينة".

وأضاف "القدس أرشيف، ليس بالمعنى التقليدي، ولكنها أرشيف يحوي مصادر الذاكرة الجماعية والفردية، والتنقيب بها كأرشيف ليس مرتبطا بالفعل الأركيولوجي الأثري البحت، وإن كان أحيانا كذلك، بل يرتبط باستنباط الذاكرة واكتشاف تفاصيل أسرارها ومخابئها (…) أن تختبر القدس كأرشيف يعني أن تكون متحركا، أن تمشي بها، وأن تطلق لخيالك العنان". ورأى الباحث أن معظم الأعمال الفنية التي تناولت القدس "محصورة في الإطار الرمزي للمدينة، أو في إطار النوستالوجيا للماضي السعيد للمدينة، وغالبا ما تعجز هذه الأعمال عن أن تكون مشروعا تحرريا، بل تبقى أسيرة للحظة تاريخية ماضية".

كذلك تحدثت نسب أديب حسين عن "العمل الثقافي في القدس وتحدياته"، وركزت على الفن والثقافة في الفترة المعاصرة، وذكرت أن عامي 2011 و2012 شهدا حالة من الزخم الثقافي استمرت 6 سنوات مقارنة بالسنوات السابقة، فعرفت المدينة افتتاح مراكز ثقافية جديدة وتجديد أخرى قديمة، من ذلك معهد إدوارد سعيد، ومقهى الكتاب الثقافي، ودار الجندي للنشر، وظهرت ملتقيات شبابية ومهرجانات مختلفة، ومبادرات كانت استجابة لأحداث سياسية مثل مبادرة "مش خايفين"، متناولة دور هذه المبادرات في توطيد العلاقة مع القدس لكل الفلسطينيين داخل وخارج الجدار.

الرقابة و"الأسرلة"

من جهته، قدّم الباحث غسان حلايقة مداخلة حول "سياسات السيطرة الأمنية في القدس"، إذ يعمل نظام السيطرة الأمنية "من خلال شقين بالأساس: الأول يقوم على عزل أهل القدس، أو على الأقل إعاقة اتصالهم مع امتدادهم الطبيعي، أي مع السكان المتواجدين داخل جدار العزل، بوجوده المادي والمعنوي والحواجز العسكرية".

هذا العزل -حسب حلايقة- "يشابه بشكل كبير العزل الذي تعرض له سابقا الفلسطينيون الذين يسكنون في الأراضي المحتلة عام 1948، وتحديدا بين عامي 1948 و1967، حيث تم "إنشاء جيل ضمن حيز مكاني محدد ومسيطر عليه وملوث بمرئيات الاحتلال"، كما أشار إلى النظام التعليمي التابع للاحتلال، ويتضمن الجانب التربوي الذي يعمل من خلال ما تسمى المراكز الجماهيرية.

ولفت حلايقة إلى أن العزل أخذ بُعدا جديدا، مع صدور قانون التجنيس، قبل أسبوعين، الذي يتيح الحصول على الجنسية الإسرائيلية لمن هم بين 18 و21 عاما، معتبرا أنه قرار "يدل على أن مخطط السيطرة على القدس هو في جوهر الاستعمار الصهيوني، وأعمق من المزايدات الانتخابية"، ولفت حلايقة إلى "العنف المنهجي" الذي يمارسه الاحتلال ضد مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية في القدس وإغلاقها باستمرار، وفرض فعاليات المراكز الجماهيرية التي ينظمها الاحتلال على الفلسطينيين.

وأشار حلايقة إلى أن الشق الثاني من سياسات السيطرة هو مشروع "مابات 2000" في البلدة القديمة، "النموذج الأصعب والأكثر تعقيدا من نماذج الرقابة، فهو نظام يرتكز بشكل أساسي على كاميرات المراقبة الأمنية التي تملأ الحيز المكاني للبلدة القديمة ومحيطها المباشر"، كما تطرق إلى نظام المربعات الأمنية التي تزيد من سيطرة الاحتلال على المناطق المحيطة بالقدس.

تجاوز الجغرافيا الاستعمارية

"القدس كحلقة وصل: عن تجاوز الجغرافيا الاستعمارية ثقافيا وسياسيا" كان عنوان مداخلة الباحث داود الغول، الذي تناول الفعل الثقافي من جانب سياسي، مبينا أن "النشاط الثقافي لطالما كان مرتبطا بالمؤسسات"، فمعظم الأحزاب الفلسطينية والعربية والإسلامية كانت لها مكاتب في القدس، وكان هذا دلالة على مركزية المدينة تاريخيا كموقع للفعل الثقافي والسياسي، واعتبر أن من أبرز التحديات التي تواجه المدينة اليوم هو الجدار العازل الذي يعيق التواصل بين المدينة والضفة الغربية، وفي المقابل بناء شبكة مواصلات تربط المدينة بالمستوطنات.

وكان موضوع مشاركة الباحثة فيروز شرقاوي "باب العمود: في مواجهة الهيمنة"، وفيها استعادت تاريخ الباب الذي بُني عام 37 من الميلاد، ويعد حيزا نشطا ورئيسيا في المدينة، ونقطة التقاء اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، فهو مركز المدينة بالنسبة إلى المقدسيين، وهو كذلك مركز انطلقت منه تاريخيا مظاهرات سياسية ضد العثمانيين والإنجليز والصهاينة. ورصدت شرقاوي أساليب الاحتلال في السيطرة على هذا الحيز، من منع البائعات الفلسطينيات من الوقوف فيه، والتضييق عليهن في الحصول على التصاريح، إلى جانب مشاريع بلدية أخرى؛ من بينها إقامة حديقة عامة مكان موقف المواصلات فيها، وتنظيم المهرجانات الإسرائيلية مثل تظاهرة "أنوار القدس"، و"مظاهرة الأعلام الاستفزازية التي ينظمها المستوطنون في ما يسمى يوم القدس، اليوم الذي يحتفل فيه المحتل باحتلال السوق الشرقية من مدينة القدس عام 1967".

نموذج للدراسات الحضرية

"القدس كبراديغم: نموذج وحالة للدراسات الحضرية" كانت مداخلة المعماري كاميليو بوانو، الأكاديمي في كلية لندن البريطانية، وفيها قدم صورة عن صعوبة دراسة المدينة، موضحا أن "الباحثين يرون المدينة بوصفها استثناء، وبالتالي كانوا غير قادرين على ربطها بتجارب مدن أخرى والمناطق وأنماط الحاكمية"؛ فالعرقية وليست المواطنة هي ما تحدد في هذه المدينة توزيع المصادر والموارد والصلاحيات.

كما أن طبيعة دراسة المدينة حضريا تتطلب إيجاد وسيلة لفهم المدينة من حيث ما هو العادي والمتنازع عليه، فالعمل عليها يقتضي أيضا العمل على أساليب الهيمنة والتوسع في فضاء مستعمر بالكامل. وتساءل بوانو إن كان يمكن اعتبار القدس نموذجا في الدراسات الحضرية، مستعينا بفلسفة الإيطالي جورجيو أغامبين، حيث ينظر إلى المدينة كحالة استثنائية فائقة للغاية عالقة في التوتر بين الخصوصية والاستثنائية، واصفا المدينة بأنها "الواقع العنيد".

من الأوراق الأخرى التي قدمت خلال الجلسات؛ "أسود عند الباب: سردية المقاومة في هبة باب الأسباط في 2017 ومصلى الرحمة في 2019″ لأحمد سعد، و"محطات من الإعلام الفلسطيني حول القدس" لعبد الرؤوف أرناؤوط، و"كيف نفكر في القدس معرفيا" لعلى مواسي، و"الفلسطينيون من جذور أفريقية: أسباب الهجرة وأبيات الاندماج" لياسر قوس.

المصدر : الجزيرة