شعار قسم مدونات

ثلاثية تأمين الطاعة العمياء.. الجوع والجهل والخوف

عالم الجزيرة - الإنسان الآلي في اليابان
تؤدي هذه الطاعة إلى إلغاء الذات والإرادة وانتظار كل شيء من الآمر (الجزيرة)

يحدثنا زكريا تامر في قصة "النمور في اليوم العاشر" عن نمر وضع أمامه التبن ليأكله، ويرفض النمر طبعاً، ثم تمر عشرة أيام من التعذيب والإذلال والتجويع وقلع الأنياب وقص المخالب، وفي اليوم العاشر يتقدم النمر ويأكل تبناً بعد أن لم يبق فيه شيء من النمر.

إنها النمور فماذا حلّ بالإنسان إذن!

وإنما أقصد بهذه الثلاثية ما يمارسه الإنسان تجاه أخيه الإنسان من "تجويع وتجهيل وتخويف" بهدف الإخضاع والإذلال والتبعية والاستبداد والاستعباد.. وإننا نرى بعضاً من هذه المعاني والأفكار مفصلة لدى عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.

 

يرى عبد الرحمن الكواكبي أن عوام الشعب المظلوم يعاني من التواكل والجهل وفقدٍ للهمم وانشغال تامٍ بحياتهم البهيمية البدائية والتي تكون بعيدة كل البعد عن الحرية الفكرية والأخلاقية

الجوع

الجوع يهدم شخصية الإنسان ويلغي قيمه ويمحي مبادئه، وإذا تسلط الجوع التام على الإنسان صار سلوكه من العنف مثل سلوك الحيوان تماماً، وهذا الجوع إنما يكون بالفعل تجويعاً لا جوعاً.. سياسة التجويع للتركيع إنما تتبع لتملك الرقاب، وإذلال الكبار.

الجهل

يرى عبد الرحمن الكواكبي أن عوام الشعب المظلوم يعاني من التواكل والجهل وفقدٍ للهمم وانشغال تامٍ بحياتهم البهيمية البدائية والتي تكون بعيدة كل البعد عن الحرية الفكرية والأخلاقية، ولكنك تجدهم حريصين كلَ الحِرصِ عليها لأنهم لا يعرفون غيرها ولم يذوقوا نعيم المجد بعد.

وهذا الجهل والتجيهل هو العمود الفقري للاستبداد، والاستبداد هو أصل انحطاط الشعوب وتخلفها، وهذا ما ذكره الكواكبي في مطلع كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد وعمل على توضيحه وتفصيله تفصيلاً مُتقَناً مُمَنهَجاً، فقد وصف حال الشعوب التي تعيش في كنفِ مستبدٍ ظالمٍ يستغل جهل أفراد الأمة ويتصرف في شؤونهم بمقتضى الهوى وليس الحكمة.

فالعِلم هو عدوُ الاستبداد الأول، وبالعلمِ تنهض الأمة من خوفها واستسلامها، وبالعلمِ تبدأ بالسعي وراء منافعها وحقوقها.

الخوف

ويجب ألا ننسى الخوف من غضب المسؤول الأعلى مباشرة أو بعد عدة رتب، والغضب لا يعني العقوبة فقط؛ بل يعني التجريد من الصلاحيات والامتيازات، وهذا يعني ضرب المصالح، كما أن هناك محاولة إثارة إعجاب الآمر بحسن التنفيذ أو بمقدار الطاعة بما يضمن أن يظل الآمر يعتمد علينا دوماً، وأن نصبح من المقربين إليه.

وفوق ذلك، وبفعل التغيير الذي حدث للبنية الداخلية للإنسان في نفسه وروحه، نجد مسألة استمراء ممارسة السلطة والتخويف (والترهيب)، أي تلذذ الشخص بإحساسه بأنه مثير للخوف، وأن أوامره مطاعة، وأن الآخرين ليسوا في خدمته فقط بل إنهم رهن إشارته. وهذا ما يقودنا إلى قضية الانتقام من الماضي، فإن هذا "المُخيف" كان يتعرض للإذلال والتخويف والترهيب فيما مضى (أو أنه لا يزال)، فهو إنما ينتقم من ماضيه.

إنها ثلاثية تأمين الطاعة العمياء.. الجهل والجوع والخوف، ومن ثم حصاد مر وتدمير ممنهج.

الذي حول الوحوش الضارية إلى مخلوقات مسلية في السيرك، وجعل الفيلة تقف على رؤوسها، والأسود تقفز كالبهلوانات، قد اكتشف أنه يستطيع أن يجري التحويل ذاته على الإنسان، فحوله إلى مخلوق مسلوب الإرادة.

تأمين الطاعة.. وتدمير الإنسان

هذه التغيرات التي تصيب الإنسان بفعل الجهل أو الجوع أو الخوف، هي التي تؤمن الطاعة العمياء، وتحول الإنسان التابع إلى شيء من أشياء المتبوع لا قيمة له ولا رأي.

وإن الشخص الذي يأنف في أعماقه من السرقة والقتل والاعتداء قد يرى نفسه وهو ينفذ هذه الأفعال بشيء من اليسر حين يؤمر بفعلها من سلطة عليا، فهو ينفذ الأوامر باسم الطاعة العمياء! لقد قام بعمله فقط.. لم يفعل إلا ما طُلِب منه!

قد يقتل الإنسان طفلاً أو عدداً من الأطفال أو يمارس التعذيب أو يأمر به أو يسكت عنه أو يسوغ له ثم يذهب بهدوء إلى بيته لتناول الشاي.. هذا كله تحت اسم الطاعة.. طاعة الأوامر.. الطاعة العمياء.

وقد تكون الجرائم التي ارتكبت باسم هذه الطاعة أكثر بكثير من الجرائم التي ارتكبت باسم التمرد على الأوامر!!

لأن الذي حول الوحوش الضارية إلى مخلوقات مسلية في السيرك، وجعل الفيلة تقف على رؤوسها، والأسود تقفز كالبهلوانات، قد اكتشف أنه يستطيع أن يجري التحويل ذاته على الإنسان، حوله إلى مخلوق مسلوب الإرادة.

الطاعة والمجازر الجماعية

وبسلاح الطاعة هذا وبالأساليب ذاتها صُنِعَ الجلادون والقتلة واللصوص والانتهازيون والمرتشون والمفسدون.

تؤدي هذه الطاعة إلى إلغاء الذات والإرادة وانتظار كل شيء من الآمر، الآمر يأمر وهو المسؤول عن أمره، "فالسلطة التي تصدر الأوامر هي المسؤولة عنها"، وبذلك يتجرد الإنسان من ضميره ويتحلل من مسؤوليته.

ثم يوقع هذا الإنسان المطيع الأذى بأخيه الإنسان معتمداً على تجيير المسؤولية نحو السلطة التي تعطي الأوامر. والمجازر الجماعية هي المثال الأكثر شمولية لـ "الأذى الذي يوقعه إنسان بإنسان آخر".

 

إن عملية التحويل تمت بفعل الطاعة، بفرضها تدريجياً عن طريق تدريبات وعقوبات، وهذا يعني أن الطاعة غيرت في ذات الإنسان ونفسه، ابتداءً بقواعد السلوك والبروتوكولات وصولاً إلى تملق المسؤولين وأولي الأمر

الطاعة وتدمير الإنسان

الطاعة هي المسؤولة إذن، فالطاعة هي التي تقوم بالتربية المنزلية والعائلية والمدرسية والأمنية والسياسية، وهي التي ساعدتنا على ترويض الحيوانات منذ القدم، وقد ابتكرنا، نحن وأسلافنا، ابتكارات مذهلة في مجالي الطاعة والتطويع. إن الطاعة (أو الإخضاع) اكتشاف مثل الاكتشافات الأخرى، وقد تحولت من سلوك عفوي وتجريبي إلى علم مستقل بذاته، وهي التي ساعدت على تقدم الحضارة، ولكنها في الوقت ذاته هي التي يمكن أن تساهم في تدمير الحضارة أو تدمير إنسانية الإنسان إذا ما أسيء استخدامها مثل أي اختراع توصل إليه البشر أو التقدم العلمي.

إن عملية التحويل تمت بفعل الطاعة، بفرضها تدريجياً عن طريق تدريبات وعقوبات، وهذا يعني أن الطاعة غيرت في ذات الإنسان ونفسه، ابتداءً بقواعد السلوك والبروتوكولات وصولاً إلى تملق المسؤولين وأولي الأمر.. هذا كله من مظاهر تغير الإنسان بفعل الطاعة.

وعملية التحويل هذه إنما حدثت بفعل قوة عنيفة عنفاً ظاهرياً، وهذا معروف ملموس، وبقوة أخرى أخطر وأشد؛ هي التخويف والتجويع، ومعهما التجهيل، فبمنع الطعام وبالضرب والإيلام تتحقق عملية الترويض بمعنها الكامل، يتحقق التغيير في البنية الداخلية للإنسان.!

تلخيص

بسبب هذا كله يرزح المجتمع تحت سطوة الاستبداد، فيحول الاستبداد المجتمع إلى جثة هامدة يستطيع النيل منها كل من أراد من الأعداء المتربصين، وفي ظله يصاب أصحاب القدرات بالسلبية، والتشاؤم، والقلق.

ولكن، وفي مواجهة ذلك، يدفع الاستبدادُ المستنيرين من أبناء المجتمع إلى تكثيف جهودهم، وتنشيط حركتهم من أجل تنوير الناس، واستنهاض هممهم ومن أجل مقاومة الاستبداد، ومقارعة المستبد للتخلص منه، والعنصر الأهم في هذه المواجهة هو الوعي الدقيق بمشكلات المجتمع وتلمس الحلول لها، تمهيداً لبدء حركة الإنقاذ. والوعي، عادة، لا يتوفر إلا بنشر الثقافة، وتحديد الملامح الأساسية لأطر الفكر الإصلاحي الذي سيعتمده دعاة التغيير.

فالأمة ذات البسطة في الأفكار، والمهارة في المعارف، هي الأقوى سلطاناً، والأقوم سياسةً، وهي الغالبة على ما سواها من الأمم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.