شعار قسم مدونات

الهبوط والإقلاع .. جدليات المشهد التونسي

 

مما أذكره أن الجدل في دروس العلوم السياسية في جامعة سيدني والجامعة الوطنية الأسترالية (ANU) كان يدور حول "الإقلاع" (takeoff)، والمعني بالإقلاع هنا هو "الإقلاع الاقتصادي"، وليس من باب الاعتباط استعارة هذا المصطلح من مجال الطيران.

نظريا، دخل المصطلح قاموس الاقتصاد والسياسة من خلال أدبيات وولت روستو في الستينيات من القرن الماضي، في وقت كانت الدول النامية تبحث عن وصفات "سحرية" للالتحاق بركب الدول الصناعية المتقدّمة.

حدد روستو أربعة مكونات للإقلاع هي، أولأ: ازدياد معدّل الاستثمار خلال حقبة زمنية بما ينعكس على دخل الفرد؛ ثانيا: يفترض هذا النمو، حدوث تغييرات كبيرة في تقنيّات الإدارة والإنتاج بما يؤدي إلى زيادة في الدخل الفردي (GDP per capita)؛ ثالثا: توافر نخبة قيادية مثل التكنوقراط، وتتصف وفق تصوّره بالإرادة والسلطة لتعميم تقنيّات الإنتاج الجديد هذا في الإدارات؛ ورابعا: نقل هذه الثقافة من النخبة الى المجتمع نفسه، لإعتماد هذه التغييرات الجديدة بما فيها الانفتاح على السوق العالمي.  

والثابت أن هذه الوصفة "السحرية" لم يكتب لها النجاح الاَ في حالات نادرة جدا، وشكلت مجموعة من الدول استثناء في هذه الحالة مثل البرازيل والنمور الآسيوية، والدول التي يتوفر لديها رأس المال والكادر البشري المسلح تقنيا، إضافة الى ثقافة الإخلاص في العمل مما أتاح لهذه الدول فرصة الوصول إلى السوق العالمي.

ومع ذلك فإن هذه الكتلة وفق تعبير مدرسة التبعية (Dependency school) تصنف على أنها "شبه حاشية" (semi-periphery)، وهي تابعة للغرب أيديولوجيا من الناحية الاقتصادية في تبنيها المفرط لمقتضيات الاقتصاد الحر والليبرالية الاقتصادية.

وعلى عكس وصفة الإقلاع لروستو التي لم تفلح، قدم أرماتيا سن (Armataya Sen) في سبعينيات القرن الماضي، طرحا أكثر واقعية وكأنه يوجه الدعوة إلى "الهبوط" إلى أرض الواقع. كان لب طرح سن الحائز على نوبل، هو ما يسمى ب "الاقتصاد الإنساني"، والذي يتحدى نظرية المنفعة التقليدية وأدواتها في القياس. وكانت دول فقيرة، بكثافة سكانية عالية، هي الحقل التطبيقي لهذه الأطروحات. لقد كان من الواضح أن حل معضلات التهميش والفقر والجوع والحرمان في دول مثل بنغلادش، يحتاج إلى اقتصاد يتمركز حول الإنسان، وهو ما أوجد مفهوم "الاستحقاق"، في النظر إلى التنمية كحق للجميع، واقتضى ذلك إجراء دراسات معمقة عن الفقر والحرمان، وأفضى ذلك في النهاية إلى مجموعة جديدة من المفاهيم في علم الاقتصاد كان الإنسان في بؤرة اهتمامها وأهدافها. ومن هذه البوتقة جاء الربط الوجيه بين التنمية والحرية، وهو ما فتح مسارا جديدا في إعادة تشكيل التصور بشأن التنمية بعيدا عن الزامات السوق الرأسمالية.

وبناء عليه فالوصفة المناسبة للاقتصاد التونسي والدول العربية ذات الدخل المحدود لا يجب أن تغادر حدود الأنسنة، بمعني أن واقعها لا يتيح تحمل وصفات مثل" أمركة" الاقتصاد التونسي، فتجارب النجاح والفشل الموجودة على هذا الصعيد تغني عن إعادة اختراع العجلة. وشروط النمو الفاعل الذي أنعشت أطروحات سن التفكير بشأنه، هي التركيز على الابتكار في السياسات الاجتماعية كمحرك لا غنى عنه في دفع عجلة التنمية. والقيود التي تفرض على الاقتصاد هدفها حماية الناس من الفقر والتهميش، في توجه مغاير لقوالب تحرير السوق المصمّمة من قبل أرباب الرأسمالية العالمية (One size fits all) لتُعمم على جميع الدول بصرف النظر عن خصوصياتها ومقوماتها وثقافتها، وفق نهج التحرر من أيّة قيود، والذي يحمل رايته إجماع واشنطن.

دعونا نهبط معكم في سطورنا القادمة إلى أرض الواقع التونسي، من خلال قصة الخطوط التونسية للطيران، فقد أعلنت ألفة حامدي، المديرة العامة الجديدة للشركة، عن تشكيل لجنة استشارية وطنية ودولية، دون خطة واضحة المعطيات لإنقاذ الناقلة الوطنية، التي يزيد عمرها عن 70 عاما.

ولا نجادل هنا في تولي المرأة لمثل هذا المنصب، بل نجده أمرا محمودا، ولكن المشكلة تتمثل في اللجنة ذاتها، فهي تتكون من مستشارين وخبراء تونسيين وعالميين في مجال صناعة الطيران وظيفتهم تقديم المشورة للمديرة الجديدة. وتتكون اللجنة من تسعة أعضاء خمسة منهم أجانب. وتكشف مراجعة الأسماء عن هوس بالتجربة الغربية، خاصة الأميركية، على الرغم من الاختلاف الفاحش في طبيعة البيئة والمجال والتجربة والمقومات، فامتلاك "اميركان ايرلاينز" لأسطول يصل تعداده إلى 900 طائرة، لا يعد دليلا عن تجربة ناجحة يمكن اسقاطها على الحالة التونسية، ولعل المفارقة الأشد هي اللجوء إلى هذه الاستشارة المكلفة ماديا وفق مراجعة لأسماء اللجنة، خاصة الفريق الأجنبي منه في وقت تقف فيه تونس على شفير الإفلاس وفق آخر تحذيرات لصندوق النقد الدولي.

وتبدو البصمة الأميركية جلية في فريق المستشارين إذ يتكون من خبراء ومدراء شركات امريكية مثل دون كارتي الذي, حسب مصادر صحفيّة متوفّرة، يبدو نفس المدير الذي اجبر على الاستقالة من الخطوط في 2003 اثر أزمة مالية وصراع من نقابات شركات الطيران فيما يتعلق بأجره وعلاوة له تصل إلى 1.6 مليون دولار، إضافة إلى مبالغ ضخمة لصالح مدراء آخرين في الشركة التي كانت على حافة الإفلاس. وتضم القائمة أيضا مديرة اخرى سابقة لشركة بوينج وهي "تر بترسون"، مسؤولة سابقة على علاقات الشركة مع الحكومة الامريكية حسب ما يؤكده الملف الشخصي لها في بحث أوّلي على الإنترنت. وتواجه بوينج منذ أكثر من سنة أزمة كبيرة مرتبطة بسلامة طائراتها أدت الى تراجع في الصيت والدخل.

ولا تقف محاذير التجربة الأميركية عند حدود الفشل الوظيفي، فهي تتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر من حيث عدائها للنقابات والاتحادات العمالية.

ومع غياب الشفافية عن عمل هذه اللجنة والهدف الأساسي منها، تطرح أسئلة كثيرة حول الجهة التي ستدفع أجور هؤلاء الخبراء، فإذا كانت الخطوط التونسية تحتاج إلى انقاذ فهي بالتأكيد عاجزة اقتصاديا عن دفع هكذا أجور. المقلق أن الحامدي تبدو متجهة حسب تشكيلة هذا الفريق، نحو فتح باب الاستثمار الخارجي في الخطوط التونسية على النمط الليبرالي، وعلى وجه التحديد "الليبرالي الأميركي". ولعل السؤال هنا هو ماذا سيجني التونسيون من هذه الوصفة التي ما زالت غير واضحة الملامح وتحاط بالتكتم؟ وهل تحويل الخطوط الوطنية الى شركة تملكها جهات أجنبية هي الطريقة الامثل لاستثمار يعود بالربح على التونسيين الذين يعانون الفقر والبطالة؟ أم أنها مع أمور أخرى وصفة متقنة للإفلاس.

تبدو تجارب ناجحة لدول مثل هنغاريا وسنغافورة مناسبة أكثر للحالة التونسية، فشركات الطيران منخفضة التكلفة (Low Cost Carriers-LCCs) في هذه الدول أحدثت ثورة على صعيد تحقيق الأرباح وتوفير فرص العمل وتحديث الأسطول، وتوسعة خيارات النقل الجوي للمستهلكين بأقل تكلفة. وبرز اسم  Scoot كأكبر حضور لشركة منخفضة التكلفة في سوق سنغافورة.

ومثال آخر تمثله شركة "Wizz Air" الهنغارية الناجحة، يعد مهما للتجربة التونسية من حيث البعد الواقعي، فهذه الشركة منخفضة التكلفة والتي لايزيد عمرها عن 17 عاما تحتل المرتبة الثالثة بين أكثر شركات الطيران الأوروبية، وواصلت تحقيق الأرباح على الرغم من الضربة التي تلقاها الطيران العالمي، خاصة الأميركي بفعل جائحة كورونا.

وعلى غير بعيد من تونس فالساحة لا تخلو من خبرات تونسية تعمل في شركات طيران عربية سجلت نجاحا عالميا كالقطرية والاماراتية، فالقطرية وحدها لديها ١٠٠ طيار تونسي ناهيك عن كوادر أخرى يمكن الاستفادة من خبرتها في مجال الطيران.

أما الإشكالية الأهم فتتعلق بمسألة الاستقلال والخضوع، وإذا كانت تونس تتجه في ترميم مرافقها وثرواتها العمومية للانخراط في السوق العالمي والخضوع لليبرالية الجديدة المتوحشة، فما هو مآل "الديمقراطية الاجتماعية" التي يتحدث عنها ويروج لها النخب السياسية في تونس؟ مثلا، كتشكيل وزارة "التكوين المهني والتشغيل والإقتصاد الاجتماعي والتضامني" في التحوير الوزاري امس لحكومة هشام المشيشي؟ هل نحن امام سيناريو (رابح -خاسر)، "تربح" فيه الخطوط التونسية كشركة، ويخسر التونسيون كشعب مثلت ثورته في أبرز وجوهها احتجاجا على العملية الممنوحة لإفقار التونسيين. وقد يكون على التونسيين أن يستحضروا تجربة ايسلندا في 2008 حيث أدخلتها مشاريع الليبرالية الجديدة في أزمة طاحنة جعلتها للمرة الأولى دولة مدينة تواجه معدلات بطالة لم تشهدها من قبل.

ويزيد من حدة هذه المخاوف أن ينسحب ذلك على شركات وطنية أخرى تعاني مشاكل مالية، مثل شركات الماء والكهرباء وغيرها.. في عملية تفضي إلى بيع تونس، يا ترى!

إن من المبكر الإجابة على هذه التساؤلات مع الضبابية التي تحيط عملية صنع القرار خاصة وسط الإحتجاجات الشعبية المستمرة، لكن هذه اشكالات حقيقية تستحق تفكيرا عميقا. وتقتضي من نواب تونس أن يهبطوا من أبراجهم إلى أرض الواقع المرير، وأن يجروا من خلال لجنة موازية بشركاء وخبراء تونسيين مساءلة جدية بشأن ما يجري، تكريسا لتنويع المشورة والرقابة في ديمقراطيتهم الوليدة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.