شعار قسم مدونات

مفارقات الإنسانية في زمن الكورونا

blogs كورونا

الإحصاءات الأممية بحسب منظمة الأغذية والزراعة (فاو) تشير إلى وجود ٧٠٠ مليون إنسان في العالم يرزحون تحت مرارة الجوع، أي ما يعادل ١٠ بالمائة من سكان العالم، يموت منهم سنوياً حوالي ٩ ملايين إنسان. والجوع مسؤول عن موت تقريباً ٣ ملايين طفل سنوياً تحت عمر ٥ سنوات! طبعاً، الغالبية العظمى من الجياع يقطنون دولاً نامية فقيرة ينهشها الفقر والنزاعات، في نفس الوقت تقدر التقارير مجموع ما يتم هدره من غذاء بحسب الأمم المتحدة حوالي ١.٣ مليار طن سنوياً ينتهي بها الأمر الى النفايات. ثم يظهر على حين غرة (وباء) يصيب حتى الساعة حوالي ٩٠ ألف ويقتل منهم ٤ الآف لتقوم الآلة الإعلامية بإطلاق الإنذار مثيرةً الذعر وتستدعي حالة الطوارئ القصوى على وجه الكرة الأرضية.

 

المشكلة ليست بفيروس الكورونا ولا حتى الخنازير، المشكلة الحقيقة تتجلى حين يولي العالم وجه بعيداً عمن يموتون من الجوع فيما يموت غيرهم من التخمة! الوباء الفعلي الذي ينذر في واقع الأمر بزوال الانسانية بشكلها الحضري هو بدون أي شك الجشع والطمع، وانعدام الضمير! تأثير الإعلام على هذا النحو، ما هو سوى انعكاس لقرون من تطور نظم ثقافية رسخت قواعد رأسمالية صناعية خلقت بالتالي أجيال أحادية النمط الفكري، أُطِّرَ لها سلوكيات تتسق وثقافة استهلاكية، وتضفي عليها ذكاء صناعي يفتقد الى الإنسانية بمعانيها المجردة. وتسوقها كقطيع يعيش في فوهة سوداء اجتُزِأَ من تاريخ حضارته الإنسانية قرون منفصلاً عن جذوره الوجودية، على كلٍ، في عالم اليوم تجد دخل رئيس بعثة الإغاثة الأممية لمكافحة الجوع ما قد يسد جوع المئات ممن يفترض بأن يغيثهم شهرياً، إلا أنه يتعايش بارتياح مع ضميره المفترض وهو يجمع المعلومات ويصدر التقارير التي تحصي أعدادهم ولا تغفل بأن توضح في نهايتها التوصيات لحل معاناتهم!

 

في عصرنا الحالي، تصرف المليارات على صناعة السلاح التي يجني صناعها أرباحاً طائلة من بيعها إلى المستوردين المتوجسين من بعضهم البعض نتيجة مخاوف متبادلة افتعلها بالأساس صناع السلاح أنفسهم الذين يعيشون متنعمون بملذة الأمان! في زمن الجشع، ترى صورة طفل يمني جائع ضاقت روحه ذرعاً بجسده الهزيل، فتسارع إلى إزاحة الصورة قبل أن تعلق في ذهنك لتبحث عن آخر حلقات برنامجك المفضل الذي يعيش أبطاله في بيوتٍ فخمةٍ يصطف في مرائبها السيارات الفارهة، مفارقات العصر تعد ولا تحصى، حيث اصبحت الممارسة الفعلية لبواعث الضمير على نطاق المنظمات الرأسمالية هي بنود إعفاء ضريبية تحت مسمى (المسؤولية الاجتماعية) محدودة الأطر، فيما تمارس المنظمات ذاتها عبودية العصر الحديث وتتعامل مع من يعملون لديها على طريقة الرقيق.

   undefined

  

لكن لنتوقف عن التأويل، فقد قدرت الأمم المتحدة كلفة إنهاء الفقر خلال عقد أو عقدين من الزمان نهائياً بحوالي ١٥٠ مليار سنوياً. يكفي أن نعرف بأن هذه المبلغ يعادل فقط ٠.٠٣ بالمائة من الناتج السنوي الإجمالي العالمي. وبأن ميزانية الدفاع في الولايات المتحدة وحدها حوالي ٨٠٠ مليار سنوياً، وبأن تكلفة إقامة كأس العالم القادمة تقدر بنحو ٢٢٠ مليار، بالتأكيد المعضلات الإنسانية كثيرة والتي ما لبثت تتعاظم عبر العصور ككرة الثلج، أما مواجهة التحديات فلا يجد له موطئ قدم على سلم أولويات مجتمعات تغرق في بحار مظلمة من جهل الحداثة، المسيج بجدران حديدية صماء من أعلام ثمل على نظام رأس مالي صناعي تحكمه تكنولوجيا مجردة تسيطر ولا يسيطر عليها! فعند النظر لأسباب الوفاة الرئيسية في العالم في أول شهرين لسنة 2020 بحسب جامعة هامبورغ:

 

‏ 2360 : فيروس الكورونا

‏ 69602 : نزلة البرد العادية

‏ 140584 : المالاريا

‏ 153696 : الانتحار

‏ 193479 : حوادث الطرق

‏ 240950 : فقدان المناعة المكتسبة

‏ 358471 : الكحول

  

تكاد لا تجد أياً مما ذكر أعلاه في محتوى الأعلام اليوم، فالمقاربة الاعلامية لوباء معين، دون غيره ومعضلة دون سواها، ما هو سوى تناول مجزوء لا تخطأه الأعين، ووراء الأكمة ما وراءها. المنظومة الثقافية الاجتماعية لا يؤرقها أنين ضمير ولا تعاطف إنساني فشريعة العالم ومحركه المال والسلطة. أما ما لا يثري أحدهما أو كلاهما فلا وجود له في سلم الاولويات، وعلى ذلك قس!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.