شعار قسم مدونات

جاك دريدا.. من الإبداع إلى السفسطة!

blogs جاك دريدا

سأحاول أن أشرح في كل مرة أحسن وأعظم فكرة جاء بها أحد الفلاسفة وجعلته يبهر العالم بها، وسأبدأ اليوم بالفيلسوف الفرنسي الجزائري جاك دريدا صاحب التفكيك.. يقول جاك دريدا: لا شيء خارج النص، وهذه العبارة قد يفهمها البعض خطأ فيظنون أن دريدا يقصد أن المعنى في النص وليس خارج النص، وهو في الحقيقة لا يقصد هذا وإنما يقصد أنه لا توجد مرجعية ثابتة خارج النص يمكن أن نحيل لها المعنى للوصول إلى المعنى الحقيقي، وبالتالي فأي قارئ للنص سيفهم معنى خاص به.

القارئ الأول سيفهم شيئا والثاني سيفهم شيئا أخر والثالث والرابع إلى ما لا نهاية ولا يمكننا أن نفرض فهما محددا على القارئ لأن الفهم المحدد يتطلب أدوات للفهم ثابتة ومطلقة، وهذا غير موجود، لأن أداة الفهم مثلا في النص المكتوب هي اللغة، واللغة ما هي إلا كلمات وألفاظ قد ربطت بمعان برواط هشة واعتباطية، تتمثل في علاقة الدال الذي هو الكلمات بالمدلول الذي هو المعنى، وعلاقة الدال بالمدلول درست كثيرا في بدايات القرن العشرين من أصحاب النظرية البنوية بداية من مؤسسها دي سوسيير وخلصوا إلى أن علاقة الدال بالمدلول جاءت صدفة واعتباطا، ولا توجد أية علاقة متينة وثابتة بينهما.

هذه فكرة فلسفية مجنونة انتبه لها جاك دريدا وسعى لإثباتها، لكن المشكل أنها تؤدي بنا إلى السفسطة وإلى اللامعنى واللامطلق واللاثابت أو ما يسمى بالعدمية

بالمثال يتضح المقال، لو فرضنا أنك جئت بطفل صغير حديث الكلام وقلت له: لقد ركنت السيارة في المستودع منذ ساعة.. الطفل هذا لن يفهم معنى كلامك بالتحديد فتحاول أنت أن تحيله على معنى أخر أقرب لفهمك، فتقول: أدخلت السيارة في المستودع منذ ساعة، قد يسألك الطفل: ما معنى المستودع، فتحيله أنت على معنى أخر فتقول المستودع هو غرفة مغلقة نضع السيارة بداخلها لحمايتها، ثم يسألك ما معنى منذ ساعة، فتحيله على معنى يشرح له الزمن وحركته وتقسيماته لتقرب له المعنى، وربما يكون قد سألك عن معنى السيارة، فتخبره أنها ألة مصنوعة لنقل الناس من مكان لأخر، وهكذا تتوالى الإحالات سعيا منك لإيصال المعنى الحقيقي، وهذه الإحالات ربما تصل بك إلى حالة اللامتناهي إن كان النص طويلا ومعقدا..

وبالتالي حسب دريدا لتفهم نصا أمامك لابد لك من نص أخر يشرحه لك، والنص الأخر يحتاج لنص أخر لتفهمه وهكذا بلا نهاية، وهذا في حالة وجود كاتب النص أو قائله أو فاعله، فما بالك إن كان صاحب النص مات من زمن وغاب عن أعين القارئ.. وهذه فكرة فلسفية مجنونة انتبه لها جاك دريدا وسعى لإثباتها، لكن المشكل أنها تؤدي بنا إلى السفسطة وإلى اللامعنى واللامطلق واللاثابت أو ما يسمى بالعدمية.. لأن فكرة المتناهي اللامحدود كما أشبهها أنا فمثلا لو جئت بقطعة خشب طولها عشرة سنتمتر وبدأت تقسمها، إلى كم قطعة ستقسمها..؟ إلى إثنان، أو ثلاث أو أربعة أو خمسة.. وستستمر في التقسيم إلى المالانهاية مع أنك مقتنع بأن طول القطعة محدود بعشرة سنتمتر، ولكن عقلك يقول لك أن في كل مرة تقسم فيها سينتج لك قطعة قابلة إلى التقسيم على إثنين وهكذا وهي فكرة اللامتناهي المحدود.. مثل قرأتنا لنص ما ستكون هناك قراءة أولى وثانية وثالثة وهكذا إلى مالانهاية مع أنك مسلم بأن لهذا النص معنى محدد، لكن المعنى الدقيق والثابت بعيد جدا قد ينفلت إلى اللامحدد.

وفكرة جاك دريدا هذه جاءت متوازية مع أفكار ميكانيكا الكم في بدايات القرن العشرين وخاصة فكرة عدم التعيين لهايزنبرغ، وكل نتائج وأليات ميكانيكا الكم كما هو معروف غريبة وعجيبة وساحرة للعقول تجعل الناس ينتبهون لتطبيقاتها الغير منطقية أحيانا مثل الفلسفة التفكيكية غريبة وعجيبة وساحرة في نفس الوقت، وكما علق ألبرت أنشتاين على بعض نتائج ميكانيكا الكم فقال: إن الله لا يلعب بالنرد (أي لابد وأن يكون هناك قانون منطقي يفسر ظواهر الجسيمات الصغيرة بدلا من لا منطقية ميكانيكا الكم)، وكذلك نفس الشيء لأي قارئ لأي نص في العالم فهو حتما سيرفض مبالغة دريدا في النص بمعان لا نهائية لأن القارئ نفسه يدرك أنه لابد وأن يكون هناك معنى محدد لدى الكاتب أو القائل حتى وإن كان حمالا لأوجه كثيرة وعديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.