شعار قسم مدونات

كل شيء يتغيّر.. كيف تساهم التكنولوجيا في تدمير مفهوم القيمة؟

blogs هاتف

يكاد يكون التطور المتسارع في التكنولوجيا أحد أهم سمات هذا العصر. هذا التطور حفز النشء والشباب للاستمتاع بالسباق بين شركات التكنولوجيا للحصول على أفضل وأسرع وأسهل الأدوات والمعدات والأجهزة المنزلية. البعض من الأكبر سناً، أو بالأحرى الذين يدفعون من جيوبهم تكلفة المواكبة يحنون إلى الماضي حينما كان التلفاز من الأجهزة المنزلية التي تعمر لعقود، والغسالة تخدم الأولاد والأحفاد، أما الهواتف كانت تعمر أكثر بكثير من عام أو عامين كما حال الهواتف الذكية.

في الحقيقة أن المصممين والمصنعين يقومون بابتكارات كثيرة تشجعنا على الترقية وشراء نسخة أحدث، وبهذا يصلون بسرعة إلى جيوبنا. على سبيل المثال، ربما كنت قد اشتريت تلفاز منذ أربع أو خمس سنوات، كانت الشاشة عالية الدقة، اليوم الشاشة أربعة أضعاف الدقة التي كانت عليها في تلك الفترة، أيضاً التطبيقات أكثر والوصول إلى الإنترنت أسرع والشكل أجمل واستهلاك الطاقة أقل والصوت أفضل وهناك شاشات مقعرة وبهذا يصبح التحديث أمر ضروري لمواكبة الارتقاء المعيشي.

السيارات المنتجة في النسخة الحديثة أجمل من سيارات النسخة السابقة، فلوحة القيادة تبدو أجمل وشاشة الموقع الجغرافي أكبر وألوانها أجمل وتحتوي إضافات كثيرة. ربما رأيت فتيةً أو فتياتٍ يتبارون من يحمل أفضل هاتف ذكي بمزايا أحدث ومواصفات أعلى. هذا بالضرورة يؤثر على أصحاب الهواتف الأقدم أو الأقل مزايا حيث يتوجهون إلى الأهل شاكين بطء وقدم هواتفهم الذكية التي ربما استخدموها لأقل من عامين، راجين تحديث هواتفهم. فئة النشء والشباب هم الأكثر انجذاباً نحو التغيير في الأزياء، الموسيقى والتكنولوجيا، هذه سمة اليافعين. لكن الآباء أيضاً غالباً ما يحاولون تقليد جيرانهم أو زملائهم، فمثلاً ربما نقوم بتغيير جهاز كهربائي في المنزل حين نرى جهازاً حديثاً لدى أحد الجيران رغم أن الجهاز الموجود لدينا ما زال يعمل جيداً.

عملية التدوير للأجهزة المتقادمة تعد ضخمة وربما تبدو غير أخلاقية، فالكثير من الدول تقوم بإرسال الأجهزة القديمة للدول الأكثر فقراً، حيث يقوم المستهلكون باستخدام الأجهزة القديمة لفترة من الزمن ومن ثم يحاولون استخراج بعض المعادن لبيعها

هؤلاء المصنّعون المبتكرون الذين يصنعون منتجات رائعة، أصبح اقتناؤها اليوم ضرورة لا رفاهية، غالباً ما يصممون منتجات ذات فترة حياة محدودة للتأكد من أنَ المستهلكين سيحتاجون إلى استبدالها عاجلاً وليس آجلاً. على سبيل المثال قد تصمم الطابعة لطباعة عدد معين من الصفحات وحين الوصول إلى هذا العدد ستتوقف عن العمل وتظهر رسالة عدم القدرة على الطباعة وحينها سنجد صعوبة في فهم السبب. أيضاً منتجو الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية يتعمدون التلاعب في زمن صلاحية البطارية، حتى أن أبل تلاعبت في سرعة هواتفها وأجهزتها اللوحية سابقاً حين تضعف البطارية لدفع المستخدم لشراء نسخة أحدث. حتى أن مصنعي الهواتف أصبحوا يصنعون هواتف لا يمكن تبديل بطارياتها بسهولة كالسابق لدفع المستهلكين لتغيير هواتفهم حين تضعف البطارية.

كذلك فإن مصنعي الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية يحددون عمراً زمنياً للتحديثات التي يدفعونها لمنتجاتهم حيث لا تستمر أكثر من عامين أو ثلاثة وبعد تلك الفترة يصبح من الصعب توافق التطبيقات المحدثة مع نظام تشغيل قديم وبهذا يجبر المستخدم على الترقية. حتى في أجهزة الحاسوب ربما لاحظت تراجع في سرعة نظام التشغيل بعد ربما عامين أو ثلاثة من الاستخدام، حتى أنك لو قمت بمسح نظام التشغيل وتثبيت نسخة نظيفة ستحصل على نفس النتيجة وتضطر لشراء حاسوب جديد.
كما أن البرمجيات الحديثة أصبحت تراخيصها باشتراك سنوي وإن لم تقم بتجديد الاشتراك سيتوقف البرنامج عن العمل أو سيتوقف عن التحديث ولن يتلقى المستخدم الدعم الفني في حالة حدوث خطأ في البرنامج.

التقادم التقني

هذه الظاهرة ليست سوى استراتيجية سوق تسمى التقادم التقني، حيث يحل مُنتج جديد محل القديم، ويصبح من المفضل استخدام التقنية الجديدة بدلاً من القديمة. أحياناً نجبر على التغيير مثلا الانتقال من أشرطة التسجيل إلى الأقراص الصلبة ومن ثم إلى الذاكرة الوميضية (فلاش). وبهذا تصبح التقنيات القديمة قد عفا عليها الزمن. وفي حالة أن الأجهزة ما زالت ممتازة وتعمل بشكل جيد تنتج الشركات نسخ محدثة تكون أجمل وبها خواص أحدث تدفع المستخدم للتغيير. ولهذا فإن عمليات تدوير المنتجات القديمة أصبحت سوقاً كبيراً في الكثير من الدول.

قد يبدو موضوع التقادم تلاعباً بسيكولوجية المستهلك، فهو يخاف أن يصبح متقادماً تقنياً أو يصبح لديه رغبة دائمة بالحصول على أحدث أجهزة. ولكن اقتصاد الكثير من الدول يعتمد اعتماداً كبيراً على تحديث الأجهزة والأدوات ابتداءً من المصباح وانتهاءً بالسيارة. فهناك مئات الآلاف من الوظائف تعتمد على هذه الاستراتيجية. المدافعون عن البيئة والمشرعون يحاولون الوقوف سداً أمام استراتيجيات التقادم ولكن الشركات الضخمة المسيطرة على السوق مثل غوغل وأمازون وسامسونج وهواوي وغيرها تسيطر على قطاع عريض من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وحتى تسيطر على صناع القرار لأنها نجحت في السيطرة على قطاع واسع من الاقتصاد والأعمال.

كما أسلفت سابقاً فإن عملية التدوير للأجهزة المتقادمة تعد ضخمة وربما تبدو غير أخلاقية، فالكثير من الدول تقوم بإرسال الأجهزة القديمة للدول الأكثر فقراً، حيث يقوم المستهلكون باستخدام الأجهزة القديمة لفترة من الزمن ومن ثم يحاولون استخراج بعض المعادن لبيعها. هذه العملية قد تبدو مضره للبيئة لأن الكثير من المخلفات الخطرة كالليثيوم والبلاستيك من الصعب إعادة تدويرها أو إتلافها بحيث لا تسبب ضرراً للبيئة وبهذا تصبح الدول الأكثر فقراً أيضاً الأكثر تضرراً بيئياً. الأكبر سناً يدركون جيداً تكلفة الترقية لأجهزةٍ أحدث، فهم يفهمون التكلفة جيداً، وربما يستطيعون التعايش مع نظرية التقادم لفترة أطول من اليافعين. لكن الفقراء لا خيار لهم. الترقية شيء يبدوا ضرورياً في عالمنا السريع التغيير ولكن هناك حدود وضوابط علينا اتباعها للتخفيف من العبء المادي والخروج من فقاعة التقادم التقني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.