شعار قسم مدونات

بين العقلي والتجريبي.. لماذا لا نفهم الرياضيات؟

مدونات - الرياضيات

تتعدد العلوم وتتنوع حسب موضوعاتها، مناهجها ونتائجها، وتعتبر الرياضيات في بداياتها علما تجريديا يدرس الكم بنوعيه المتصل والمنفصل، بتعبير آخر الجبر والهندسة. لكن ما يثير الجدل أن هناك من يرى أن الرياضيات ذات منشأ وطابع عقلي في حين يرى آخرون أنها ذات طبيعة حسية تجريبية. من هذا المنطلق نتساءل: ما طبيعة الرياضيات وكيف نشأت المفاهيم الرياضية؟ هل تُرد الرياضيات في أصلها إلى ما هو عقلي فكري أم إلى ما هو حسي تجريبي؟ هذا السؤال ذو الطبيعة الفلسفية تتجاذب أطرافه نزعتان متناقضتان.

النزعة العقلية

وهي النظرية العقلية في نشأة الرياضيات، فحسب السياق التاريخي، نجد أن الحِقب الفلسفية تزخر بصراع فكري بين النزعتين العقلية والحسية في نظرية المعرفة عموما وفي منشأ الرياضيات على نحو خاص. تذهب هذه النزعة إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بالعقل والمعرفة باعتبارها نتاجا عقليا إنسانيا بامتياز، وحسب المبدأ المنطقي الذي ينص على أنه «إذا صح الكل صح الجزء»، وباعتبار الرياضيات جزءا من المعرفة، فالرياضيات تُعزى في أصلها إلى العقل. وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف أفلاطون في نزعته المثالية والتي تعتمد على الازدواجية بين الروح والجسد مع اعتبار أن الأولى سابقة للثاني من حيث الوجود داخل عالم الأرواح الأزلي والمتجرد عن واقعنا المحسوس، حيث يرى أفلاطون أن الروح كانت عارفة لكل معارفها وحقائقها، والتي من بينها الرياضيات، وذلك قبل أن تدخل سجن الجسد وتنسى ما كانت عليه وما تعرفه، مع إمكانية تذكرها لجزء من ماضيها المعرفي والرياضياتي تحديدا باستحضار العقل. حيث لا يرى أفلاطون العقل سوى أداة للتذكر فيضع تقابلا (bijection) بين العلم والتذكّر من جهة وبين الجهل والنسيان من جهة أخرى.

الأفكار لا تتشكل في العقل إلا بعد استجابة الحواس لمثير حسي خارجي. ومن هذا المنطلق يزعم التجريبيون أنْ لا معرفة بدون واقع حسي خارجي، وباستعمال مبدأ الكل والجزء كما سبق نستنتج أن الرياضيات ذات منشأ تجريبي

ويرى ديكارت أن الواقع الحسي خادع كالسراب ما لم يثبت عنده في العقل، حيث لا يضع الحواس موضع ثقة بعدما كان يرى أن مصدر المعارف -بما فيها الرياضيات- يُعزى للحواس حيث قال: «والآن أدرك بمحض عقلي من قوة الحكم ما كنت أحسب أنّ عيني تراه». لذلك فهو يرى أن الإنسان جُبِل بفطرته على الرياضيات ويراها خُلقت معه من حيث أصلها، ليس من حيث المفاهيم والمبرهنات الرياضياتية المتدرجة في التعقيد بل من حيث قواعدها الأساسية من عمليات الحساب كالجمع (الإضافة) والطرح (النقصان) مثلا، فعلى سبيل المثال عندما كنتَ صغيرا ولمّا تدخل المدرسة بعد، كنت تطلب من أمك شيئا فلا تنفك عنه حتى تأخذه، وبالمقابل إذا أُخذ منك شيء تعترض وتبكي، وهذا يدلل على أن عقلك مجبول منذ الصغر على مفهوم الجمع والطرح بشكل مستقل عن الترميز الرياضياتي الحالي، وإلا كنت سترضى باللاشيء وتتعرض للخديعة بسهولة، وكأنك تعلم مسبقا وبلغة الرياضيات الحديثة أن الصفر عنصر محايد في عملية الجمع. نفس الشيء بالنسبة لباقي العمليات.

من هذا المنطلق استنتج ديكارت أن المفاهيم الرياضية مفاهية فطرية مبرمجة في العقل. أما الفيلسوف الألماني إمانويل كانط فيربط بين ذلك وبين الزمان والمكان باعتبارهما مفهومين عقليين لا تتم المعارف والرياضيات تحديدا إلا بداخلهما وذلك يستلزم انتسابهما للعقل وليس إلى الحس.

النزعة التجريبية

إذا كانت المعرفة الرياضية معرفة عقلية محضة موحدّة باعتبار العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر، فلماذا نختلف في فهمنا لها؟ ولماذا تتفاوت الأفهام والمدارك في فهم الرياضيات؟ حيث نجد من يُهْوس بها ويبرع فيها وبالمقابل نجد من لا يستسيغها ويعلن انهزامه أمامها. وإذا كانت الرياضيات علما عقليا فطريا مطلقا فلماذا نكتسبها بالتدرج؟ لماذا لم تودع دفعة واحدة في العقل الإنساني وبشكل متساو بين الجميع؟

يعتبر التجريبيون أن المعرفة هي «الأثر الذي يتركه المؤثر في الذهن»، فالأفكار لا تتشكل في العقل إلا بعد استجابة الحواس لمثير حسي خارجي. ومن هذا المنطلق يزعم التجريبيون أنْ لا معرفة بدون واقع حسي خارجي، وباستعمال مبدأ الكل والجزء كما سبق نستنتج أن الرياضيات ذات منشأ تجريبي. وهذا ما ذهب إليه فلاسفة المدرسة الإنجليزية بدءا بجون ستيوارت ميل، حيث يرى أن المفاهيم الهندسية مثلا لا تخرج عن الاستقامية والانحناء باعتبارهما مفاهيما حسية مستوحاة من الطبيعة، فالمستقيم نراه في الأفق عند التقاء البحر بالسماء، ونرى الدائرة والقرص عند اكتمال القمر! ولا يستطيع العقل هنا أن ينشئ فكرة بدون تمهيد وباستقلالية تامة عن التجربة الحسية. كذلك لو تخيلنا شخصا أعمى وُلد بدون حاسة البصر فلا يمكنه تخيل لا الأشكال الهندسية ولا الألوان ولا الأعداد. وعلى عكس ما يعتقده العقليون من أن بعض المفاهيم الرياضية عقلية محضة كمفهوم اللانهاية مثلا، يذهب رواد النظرية التجريبية إلى أن أصل هذه الأخيرة هو الواقع الحسي، فالكون في توسع مستمر وهو بالنسبة لنا غير منته ولا ندرك حدوده.

undefined

كذلك المفاهيم الأساسية في الرياضيات، فبخصوص الجمع مثلا كما أسلفنا لا يمكن أن يكتسبها الطفل للمرة الأولى بمعزل عن التجربة الحسية، و لعلكم تتذكرون هنا ما كنا نستعمله في الصغر من "أقراص وخُشَيْبات" وأقلام وبرتقال وغيرها في استيعاب العمليات الأربع. فالطفل عندما تعطيه برتقالة أو تفاحة واحدة مثلا يبدأ في تمثل "الواحد"، وبتنوع الأشكال والأدوات الحسية التي يتمثل من خلالها الواحد يبدأ في إقصاء الصفات المختلفة بين كل تلك الأشياء كالوزن والطول والحجم ليستنتج في الأخير مفهوم الواحد كفكرة مجردة في الذهن تشترك فيها كل الأشكال السابقة ثم يتم ربطها بعد ذلك بالرمز الرياضي المعروف 1. بل حتى الرجل البدائي كان يعتمد على الحصى والأصابع في عملية العد. من هنا نستنتج أنه لا يمكن للعقل أن يشكل صورة ذهنية مجردة لفكرة ما ما لم تقابلها انطباعات حسية.

وبالمقابل، إذا كانت قضايا الرياضيات قضايا ذات طبيعة حسية فهي إذن ذات طبيعة نسبية ولا ينبغي للنسبي أن يكون مقياسا في معرفة الحقيقة ومعيارا في إصدار الأحكام. من جهة أخرى، إذا كانت الرياضيات حسية مصدرها الحواس، فالحيوان كذلك له حواس فهل يتساوى الإنسان والحيوان في المعرفة الرياضية؟! وكتحصيل حاصل، يمكن الجمع بين النزعتين السابقتين في ما ذهب إليه الرياضي الفرنسي بوانكاريه حينما قال «لولا وجود مجسمات حسية في الطبيعة لما وُجد علم الهندسة، ولولا فاعلية العقل في الطبيعة ما وصل الإنسان لما عليه الآن»، وعليه فالرياضيات كما عرفنا سابقا: ما يصح تجريده في العقل انطلاقا من التجربة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.