شعار قسم مدونات

ألف ليلة وليلة.. هل نحن بصدد كتاب يتعرض للنهب؟

BLOGS ألف ليلة وليلة

لطالما أبهرني ذلك الأثر الشديد الذي يتركه كتاب ألف ليلة وليلة على الأدب الغربي، هذا الكتاب السردي الذي تنزل لغته إلى مستوياتها الدنيا، والتي تجعل منه كتابا مصنفا في خانة الأدب الشعبي، وكما أنه لأمر ما جدع قصير أنفه، فلأمر ما أيضا لم يحفل الغربيون بهذا النزول أو هذا التصنيف الذي يعد منقصة في الكتاب من وجهة نظر عربية، فجعلوا يمدحونه، ويوظفون بعض حكاياته إطارات عامة لرواياتهم دون أن يشيروا إلى ذلك، وسواء أشاروا أم لا، فالقارئ المتتبع لا تخفى عليه مثل هذه الأمور. في ظلال هذا النص سأحاول عرض أوجه الشبه بين قصة وردت في ألف ليلة وليلة، ورواية عظيمة في العصر الحديث.

تُحدثنا ألف ليلة وليلة عن كتاب قاتل، يموت كل القراء الذين يجازفون بقراءته، وغير بعيد عن هذا، يعتبر كيليطو كتاب ألف ليلة وليلة نفسه كتابا قاتلا، وبمجرد أن ينتهيَ الإنسان من قراءته يلقي حتفه، وهو يشير بهذا إلى أمر آخر، مفاده أن الكتاب جاء في أشكال عديدة وطبعات مختلفة، تباين كل طبعة فيها طبعة أخرى في طريقة سرد القصص، وتبعا لذلك جاء شأن الترجمات، وبالتالي فإن تتبع هذا الخليط من الاختلافات يستنفد عمر الإنسان بأجمعه، وحينها وتبعا لهذه النتيجة، يحكم على الكتاب بأنه كتاب قاتل. وبخصوص موضوعة القتل، يتساءل نفس الباحث إذا ما كانت اللغة العربية لغة قاتلة، جاء تساؤله هذا في سياق إيراد قصة تعلم بورخيس للعربية، عندما سئل: ماذا لو أتيح لك أن توجه رسالة قصيرة لبورخيس، ماذا كنت ستقول له؟ فأجاب: كنت أود أن أسأله عن علاقته بالأدب العربي، ومن المعروف أنه في السنة التي توفي فيها أخذ يتعلم الكتابة واللغة العربية.. تعلم شيئا من العربية ثم توفي. والسؤال هو: هل توفي لأنه تعلم العربية؟ هل العربية لغة قاتلة؟" ولربط هذه القصة بموضوعنا نتساءل أيضا: هل مات بورخيس لأنه حاول تعلم لغة ألف ليلة وليلة؟

يفيد هذا النص أن مؤلف اسم الوردة استلهم فكرة الكتاب القاتل، من كونه كان يمتلك فيما مضى كتابا حواشيه متآكلة، لكن أكان هذا المعطى كافيا ليضفي على الكتاب ذي الحواشي اللزجة أنه كان كتابا مسموما

خلاصة قصة الكتاب القاتل التي وردت في ألف ليلة وليلة، أن حكيما عالج ملكا من مرض جلدي، فكان كلما أمسك صولجانه تسرب العلاج المدهون على قبضة الصولجان إلى جسمه بالتدريج إلى أن برئ تماما، فقرب الملك الحكيم وألزمه مجلسه، وكما هي عادة بلاطات الحكام، استشاط حساد الحكيم غضبا، فألبوا الملك عليه، بحجة أنه مثلما كان قادرا على علاجه بسهولة، فهو بنفس السهولة قادر على قتله، لم يرضح الملك في البداية لهذه الوساوس، لكنه بفعل الضغط، أمر بدق عنق الحكيم، ترجاه الحكيم العفو، فلم يُجْدِ الرجاء شيئا، عندما أدرك الحكيم أنه مقتول، التمس من الملك مهلة يودع فيها أهله، وحتى يغريَ الملك، أخبره أنه سيهديه كتابا أقل ما فيه من الأسرار، أنه إذا قرأ أسطرا منه في صفحات معلومة، سيكلمه الحكيم بعد أن تكون رأسه مقطوعة!

وضع الملك الرأس في طست، وأخذ يتفصح الكتاب، وكان كلما أراد تقليب صفحة بلل إبهامه بريقه لأن الأوراق كانت ملزوقة ببعضها على نحو غريب، وكان كلما قلب صفحة وجدها خالية تماما، فكانت تأخذه المفاجأة بمجامعها، فيسرع فيَقلب صفحة أخرى. بعد لحظات أدرك الملك أن الكتاب لا يضم بين دفتيه أي كلام، غير أن إدراكه هذا كان بعد فوات الأوان، فالسم كان قد استشرى في جسده، فسقط الملك مقتولا. كانت حواف الأوراق الملزوقة مدهونة بالسم، وعبر وضع الملك إبهامه في لسانه لتبليله بالريق تسرب السم إلى جسمه. فكانت النتيجة أنه وقع فيما فر منه، مات على يد الحكيم بمكيدة مدبرة.

أثناء قراءتنا رواية اسم الوردة نصادف أن بطل الرواية ليس شخصا، بل كتابا قاتلا يظل متخفيا على امتداد الرواية. فهل هو نفس الكتاب القاتل في قصة ألف ليلة وليلة؟ يندرج الإطار العام لرواية اسم الوردة، إضافة إلى رهبان الدير، في شخصيتين نتعرف عليهما في مستهل الرواية، هما المحقق غوليالمو ومساعده أدسو، ومسرح الأحداث دير قديم يقع على مرتفع من مرتفعات إيطاليا، يضم الدير بين جدرانه مكتبة يلفها الغموض، ولا يسمح للرهبان بدخولها، وكل ما يُمَكَّنُونَ منه، فهرس يحوي جميع كتب المكتبة، وإذا رغب راهب في كتاب ما، يقدم طلبه إلى قيم المكتبة، وهو الذي يقرر إذا ما كان يُسمح بتداول هذا الكتاب أم لا! وفي ظل هذه الظروف تقع أحداث غريبة، يروح ضحيتها رهبان تذكرهم الرواية، يشرع المحقق ومساعده في البحث عن القاتل، يخلُصون في النهاية إلى أن القاتل ليس شخصا وإنما كتابا!

يهتديان إلى ذلك بعد تحريات شاقة عن طريق تلك المادة السوداء التي يجدانها على إبهام الضحية ولسانه، يستنتجان أن القاتل مادة تتسرب من الإصبع إلى اللسان ومن ثم إلى باقي الجسد. وما يجعل تساؤلنا السابق مشروعا، إذا ما كان الكتاب القاتل في اسم الوردة هو نفسه الكتاب الذي ورد في ألف ليلة وليلة اتفاق عجيب، فعندما عثر المحققان على الكتاب الذي أودى بحياة عدد من الرهبان، يجدانه كتابا يضم نصوصا عديدة من مختلف اللغات، لكن النص الأول من الكتاب نص عربي، بمعنى آخر، أن القارئ أول ما يلقى حتفه يلقاه وهو يتلمس حواف نص عربي، فهل النصوص العربية قاتلة؟ وهل هذا النص العربي هو نص من ألف ليلة وليلة؟ وهل هو نفس الكتاب القاتل التي وردت قصته في ألف ليلة وليلة؟ للوهلة الأولى، نستطيع القول: من المحتمل جدا أن يكون نفس الكتاب، لكن عند تأمل القصة الأصلية، نكتشف أن الكتاب الذي أودى بحياة الملك، لم يكن كتابا عربيا، أو بالأحرى كان كتابا دون كتابة، كان كتابا عربيا فقط بحكم انتمائه إلى الثقافة العربية وبحكم حضور قصته في كتاب مدون باللغة العربية هو كتاب ألف ليلة وليلة.

فهل تعمد إيكو أن يجعل النص الأول في كتابه القاتل بالعربية، في محاولة حوارية منه ليحيلنا على القصة التي استمد منها فكرة روايته؟ أبعد من ذلك، هل كان يشير بطريقة سيميائية إلى تعدد الروافد لكتاب ألف ليلة وليلة، فالكتاب كما هو معلوم نتاج حضارات مختلفة، وكان من الصدف أن جمعت حكاياته في القرن الخامس عشر في اللغة العربية، فهل تعدد اللغات التي تُكَوِّنُ الكتاب القاتل في اسم الوردة تشير إلى هذه الحقيقة؟ هذه أسئلة لا أستطيع إثبات مقتضياتها، بالأخص وأن إيكو نفسه ينفي أن يكون استلهم فكرة روايته من عمل ما، يقول أحمد الصمعي مترجم الرواية إلى اللغة العربية: "إن حيلة الكتاب ذي الحواشي الملتصقة بفعل مادة لزجة ومقززة (تصبح في الرواية مادة دسمة) قد تكون طفت على صفحة الذاكرة بصفة لا شعورية، لأنه امتلك فيما مضى كتابا قديما لاحظ أن حواشيه كانت متآكلة ولزجة ثم نسيه "ولكن كما لو أن آلة فوتوغرافية داخلية صورت تلك الصفحات، وبقيت صورة تلك الورقات اللزجة والمقززة عشرات السنين مدفونة في أعماق الذاكرة وكأنها في قبر، إلى أن خرجت من جديد (لست أدري لأي سبب) وظننت أني ابتدعتها".

يفيد هذا النص أن مؤلف اسم الوردة استلهم فكرة الكتاب القاتل، من كونه كان يمتلك فيما مضى كتابا حواشيه متآكلة، لكن أكان هذا المعطى كافيا ليضفي على الكتاب ذي الحواشي اللزجة أنه كان كتابا مسموما، تعمد صانعه أن يكون كذلك بهدف بين هو القتل؟ وأن فكرة السم المدهون في حواف الأوراق تعود خالصة لإيكو؟ مرة أخرى لا أستطيع الإجابة عن هذين السؤالين، لكن لماذا نعقد الأمور؟ أو لماذا يعقدها إيكو؟ والقارئ لاسم الوردة يدرك أن إيكو قد اطلع جيدا على الأدب العربي، فقد قرأ ابن سينا وابن رشد وابن حزم وعلماء آخرين، ويستبعد جدا ألا يكون قد اطلع على ألف ليلة وليلة، فلماذا لا يمكن أن يكون منبع فكرة الكتاب القاتل هو قصة الملك والحكيم، ثم بعد ذلك ظن إيكو أنه ابتدعها من الكتاب الذي كان يملكه قديما؟ من جهة أخرى، ألا يحصل هذا مع الكثيرين منا؟ إذ يحدث أن نتبنى أقوالا معينة على أنها من بنات أفكارنا، ثم نكتشف فيما بعد أننا قرأناها عند فلان؟ ألا يمكن لنفس الشيء أن يكون قد حصل مع مؤلف إيكو؟ ثم ما هي قضية الكتاب ذي الحواشي المتآكلة الذي كان يملكه أمبرتو إيكو قديما، ألا يمكن أن يكون هو نفسه كتاب ألف ليلة وليلة؟ بل أكثر من ذلك، ألا يمكن أن يكون هو نفسه الكتاب القاتل الذي ورد في حكاية ألف ليلة وليلة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.