شعار قسم مدونات

النظام المغربي وسلمية الفعل الاحتجاجي

blogs - المغرب

هل استطاع النظام المغربي أن يدفع بالحركات الاحتجاجية إلى السلمية واللاعنف؟

  

عرف الفعل الإحتجاجي بالمغرب سيرورة من التحولات، الناتجة في جزء منها عن تفاعله مع مجموعة من المتغيرات الجيوسياسية والإديولوجية التي أثرت في البيئة السياسية المغربية. وفي جزءها الثاني عن ردة الفعل الإنزوائية حيال الحياة السياسية ابتدأت بحالة الإغتراب السياسي الحاصلة لتمتد بعدها إلى الهندسة الإجتماعية للفعل الإحتجاجي، وإذا كان التغير والتحول قدرا محتوما على جميع المجتمعات بغض النظر عن الفروق الحاصلة بينها إلا أن هذا التحول المهم الذي عرفه الفعل الإحتجاجي بالمغرب، تحديدا بعد مرحلة 20 فبراير 2011 يستوقف كل مهتم بالشأن العام ومتتبع لحركية الفعل الإحتجاجي في المغرب بشكل خاص. والذي يدفعنا لطرح تساؤلات عديدة حول ما إذا كان هذا تحولا طبيعيا ناتجا عن المساعي الدولية لنبذ العنف وتكريس قيم السلام؟ أو أن النظام المغربي يحاول الدفع بالحركات الإحتجاجية نحو السلمية بعد أن استطاع التحكم في المناخ والنخب السياسية، ليستتب له حينها الأمر جملة؟ أم أنه فقط تحول طبيعي يعرفه المغرب كما بقية الدول؟

 

بالعودة إلى تاريخ الفعل الإحتجاجي في المغرب، خصوصا بعد محطة الإستقلال، سنجد أن الثابت البنيوي الذي ظل يضبط الحركات الإحتجاجية هو مبدأ الصراع والتصادم العنيف، بين القوى السياسية المعارضة والدولة، والذي ظل يتمظهر بشكل أساسي في الإضرابات العامة التي تنتهي في أغلبها بمواجهات عنيفة ودامية بين المحتجين والأمن.

 

بعد الإستقلال ظل الإضراب الشكل النضالي الأبرز الذي واجهت به المعارضة السياسية الدولة، وظلت لردح من الزمن تمارس عبره سياسة لي الذراع عبر اضرابات عامة تعطل الحركة الاقتصادية بالمغرب وتتطور في غالب الأحيان إلى مواجهات دامية بين الأجهزة الأمنية والمتظاهرين

تأتي بعذ ذلك مرحلة ظهور الهيئات والمنظمات الحقوقية، تسعينيات القرن الماضي، والتي حاولت تأطير أفواج المحتجين وتوجيه المطالب وجهة المطالب الإجتماعية بدل السياسية الإديولوجية التي ظلت تحرك البيئة الحاضنة لجمهور المحتجين والتي لم يكن النظام السياسي ليتجاوب معها أو حتى ليناقشها على اعتبار أنها تنبني على زواله، فكان يواجهها بالقمع والعنف تحت يافطة "العنف والعنف المضاد". وقد بدت بالملموس لكل ذي نظر حصيف درجة التنظيم الذي أضحت عليه الحركات الإحتجاجية بعد إلباسها جلباب الحقوق الاجتماعية الشيء الذي ساهم بشكل مباشر في تليين الصراع وتلطيفه، وجعل درجة العنف تقل نسبيا. لتكون بذلك أحد أبرز مظاهر انتقال النظام المغربي من النموذج المغلق إلى المفتوح.

 

محطة 20 فبراير 2011، وهي محطة لا بد من الوقوف عندها على اعتبار أنها محطة مهمة ضمن التاريخ السياسي المعاصر بالمغرب والتي كانت لتكون البوتقة التي سننجلي من خلالها الإرادة الشعبية مستثمرتا بذلك التراكم التاريخي للحركات الإحتجاجية بالمغرب، الشيء الذي سيجعلها تعيد ترتيب المشهد السياسي المغربي بحيث تكون الحظوة فيه للشعب. إلا أن الطريقة التي تم بها احتواء الحراك حيث تم الدفع به الى متاهة المرجعيات والتي طرحت سؤال هوية الحراك (والتي تسببت في اعتقادي إلى إجهاض حركة 20 فيراير) بعد أن كانت هذه الجزئية شبه غائبة، أمام قوة المطالب والشعارات المرفوعة، والتي كانت قادرة على توحيد الحراك وجعله عصيا خصوصا في بداياته.

 

خلال الحراك تمظهر النظام المغربي بمظهر المتفهم المتجاوب مرة، وفي مرات عديدة تمظهر بشكله التقليدي من خلال الإعتقالات التعسفية والمحاكمات الصورية وعمليات الإختطاف التي شملت بعض قادة الحركة مع الحفاظ على التدخلات الأمنية العنيفة كسمة بارزة ظلت تخترق كل المراحل الإحتجاجية. لكن لا يمكن الجزم بأن إجهاض هذه التجربة كان مرده ما تقدمنا بذكره، بل محاولات النظام "الذكية" التي تعكس دهاءه ومكره، حيث بنى خطته لإجهاض هذه التجربة على خمس ركائز: التدخل الأمني، شراء الولاءات، دستور 2011، بث الفتنة بين جموع المحتجين، وتوظيف التيار الإسلامي المُنصاع.

 

تعتبر هذه المحطة مهمة في اعتقادنا كونها كانت المرحلة الفيصل التي اجتهد النظام بعدها للتأسيس لمرحلة الإحتجاج السلمي اللاعنيف، ونظرا لما لهذا الموضوع من أهمية تخترق بشكل عرضاني جميع المستويات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية. ارتأيت أن أشارك وجهة نظري والتي سأتناول فيها ثلاثة جوانب وهي على التوالي : التضييق على الحق في الإضراب، خلق طرق بديلة للإحتجاج، المقاطعة، والتي سنرصد من خلالها كيف يبني النظام المغربي أرضية الإحتجاج السلمي.

 

الحق في الإضراب

تاريخيا وبعد الإستقلال ظل الإضراب الشكل النضالي الأبرز الذي واجهت به المعارضة السياسية الدولة، وظلت لردح من الزمن تمارس عبره سياسة لي الذراع عبر اضرابات عامة تعطل الحركة الاقتصادية بالمغرب وتتطور في غالب الأحيان إلى مواجهات دامية بين الأجهزة الأمنية والمتظاهرين، تفضي إلى سلسلة إعتقالات كانت تسيئ لسمعة المغرب دوليا.

 

بعد مراجعات عديدة، ظل القانون التنظيمي للإضراب سبب صراع حاد بين الحكومة (أحد تمظهرات الدولة) والمركزيات النقابية. مؤخرا رشح جدال حاد بخصوص هذا القانون بعد أن تقدمت حكومة بن كيران بمقترحات ضمت -حسب النقابات- مجرد آليات زجرية لشرعنة التضييق على الحريات ومنع العمال من حق دستوري في الإضراب، الشيئ الذي عطل المصادقة على القانون بنسخته المقدمة من طرف الحكومة وادخاله لمسار حوار اجتماعي لا زال معلقا بسبب تشبت الحكومة بمقترحاتها التي هي نفسها مقترحات الاتحاد العام لمقاولات المغرب، الشيء الذي يطرح عديد علامات الاستفهام.

   undefined

   

هذا المسار المضطرب الذي يشوب أحد أهم القوانين التي تهم الشغيلة وأكثرها اثارة للجدل وأمام تعنت الدولة في الموافقة على مقترحات المركزيات النقابية قَرَ في يقيني رغبة الدولة في تجاوز هذا النمط التقليدي من الإحتجاج نظرا لكُلفته وعواقبه وهو ما تشترك فيه مع "الباطرونا" على اعتبار أنهما ذوو المصلحة المباشرة في الحفاظ على مضامينه الأولى.

  

خلق طرق بديلة للإحتجاج

الديمقراطية التشاركية، وأشكال تلطيف الصراع الحاصل داخل تركيبة المجتمع، عل هذا هو الشعار الأبرز لهذه الفقرة، فبعد احتجاجات 20 فبراير تبنت الدولة المغربية بشكل قطعي الدلالة مبدأ التشاركية لتلافي تنامي الإحتقان الإجتماعي والذي عصف بعدد من الدول العربية، فتمت دسترة هذا المعطى والعمل على نشره كثقافة وكممارسة عبر ثلاث أليات العرائض والملتمسات وهيئات التشاور والحديث أيضا عن الميزانية التشاركية كصورة مثلى من صور تدبير الشأن العام.

 

هذا التحول المهم الذي حدث في بنية مؤسسات الدولة يعزى في أصله الى حاجة المواطنات والمواطنين في إعداد سياسات تتلائم وحاجياتهم هذا من جهة ومن جهة ثانية مرده هو احتواء هؤلاء وادخالهم في صيرورة قانونية مؤمنة وغير مكلفة، كيف ذلك؟ حسبنا لإثبات ذلك رؤية متفحصة للمبدأ الذي يحكم آلية العرائض والملتمسات، سنجد أنها تنبني على توقيعات عدد من الأفراد في وثيقة تحمل مطالبهم تقدم الى المؤسسة المسؤولة والتي ألزمها القانون بالإجابة، وهو ما يعفيهم من تبعات الوقفة الاحتجاجية التي قد ينتج عنها تدخل أمني محتمل، وهو ما ينسحب على بقية الأشكال التي تنبي على النزول للشارع.

 

حملات المقاطعة

لاشك أن صدى المقاطعة وصل لكل مواطن مغربي، حتى أولئك في مداشر القرى البعيدة، والكل مقتنع حد اليقين أن سلطة الشعب هي محرك المقاطعة، وأن المقاطعة شكل من أشكال الإحتجاج غير القابل للإستيعاب والتعاطي معه لا قانونيا ولا غير ذلك. لكن، كنت دائما أتسائل حول حملة المقاطعة هاذه وأمام الهالة الإعلامية التي شملتها والدعم والتأييد الكبيريين اللذان حظيت بهما، كنت أشكك انتصارا لمبدأ السؤال الفلسفي، حول محركها الحقيقي، هل بالفعل هي نتيجة لإرادة شعبية قررت فنفدت وأثرت، أم أنها محاولات نظام قائم لكسر البنية التقليدية لثقافة الإحتجاج – والتي تكلفه ماديا وبشريا الشيئ الكثير- وتكريس ثقافة جديدة مبنية على السلمية المقدور على توجيهها والتحكم فيها.

  

والملفت للانتباه أيضا هو ظهور أشكال أخرى فيها إبداع لم ينحصر في وقفات الـشموع، بـل تعدى ذلـك إلــى تنظيم الرحلات ومسيرات المشي باتجاه العاصمة، ووضع الكمامات على الأفواه والمؤتمرات والحملات العالمية  وأيضا وضع شارات تارة سوداء وتارة حمراء تعبيرا على الاحتجاج، وغيرها من الأساليب التي تعكس كلها نماذج الإحتجاج الناعمة والمقبولة والتي يطرح تناميها ودرجة قبولها أكثر من سؤال.

 

هكذا، يكون النظام السياسي بالمغرب استطاع أن يؤسس نسقاً جديداً قوض من خلاله مقدرات الشعب ودفع به دفعا إلى تبني خيار السلمية واللاعنف في تحرك استراتيجي ذكي، وهو ما ظل عزيزا على التحقق لردح طويل من الزمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.