شعار قسم مدونات

شبكات التواصل.. كيف تتلاعب بصناديق الاقتراع؟

blogs الانتخابات الأمريكية

وهو في طريقه لمنزله القديم القريب من أوكسفورد في الريف الإنجليزي بعد تقديم استقالته من رئاسة الوزراء، كان ديفيد كاميرون -رئيس الحكومة البريطانية السابق- يفكر كيف تم خداعه وكيف انساقت الجماهير وراء فكرة الخروج من الاتحاد الأوروبي. كان الكثيرون يعتقدون -وعلى رأسهم كاميرون- أنّ الحركات الشعبوية لن تستطيع الانتصار وكسب الشارع بوعود رنانة وكلام عاطفي، فالناس يؤمنون بلغة المنطق والعقل، وعلاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي علاقة أزلية ولا يمكن إجهاضها. ولهذا قرر كاميرون إجراء استفتاء "بريكزيت" أي الخروج من الاتحاد الأوروبي.

مع ظهور الأنترنت، بدأت الأحزاب السياسية في استخدامها للوصول إلى الجمهور، ولكن أول استخدام مؤثر كان من قبل حملة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي كان أحد روّاد شبكات التواصل الاجتماعي، إذ يبلغ عدد متابعيه على تويتر حوالي 100 مليون شخص. خلال الأعوام القليلة الماضية تطورت خوارزميات التحليل المنطقي والاستنتاج، وذلك أدى إلى معرفة الكثير من المعلومات الشخصية عن المستخدمين، وأهمها انتماءاتهم السياسية وميولاتهم الاجتماعية وبهذا سهل توجيههم واقتيادهم.

ومع بداية دخول مواقع التواصل الاجتماعي طور التجارة والربح، بدأ استخدام المال السياسي في جذب الناخبين. تخصصت شركات تحليل البيانات وعلى رأسها "كامبريدج أناليتيكا" في بيع خدماتها للأحزاب السياسية والحكومات. تقوم هذه الشركة ومثيلاتها بربط الناخبين بحساباتهم على شبكات التواصل الاجتماعي وبناء تحليلات تبين سلوكهم وميولهم الانتخابي عبر أصدقائهم وإعجاباتهم وتفاعلاتهم، ومن ثم تحفيزهم لانتخاب الطرف السياسي الذي يشتري خدمات هذه الشركات.

"بريكزيت" ما الذي حدث؟

أدرك مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي اللعبة النفسية التي تمكنهم من كسب الأصوات، فقد أثبتت دراسات علم النفس الاجتماعي وعلى رأسها "تجارب آش للامتثال للأغلبية" أن الفرد يفضِّل المسايرة الاجتماعية. ووجدوا أن أفضل قاعدة لنجاح حملتهم هي شبكات التواصل الاجتماعي. وبهذا بدأت الحملة ببث أخبار وتفاعلات تتلاعب بالعواطف، واستخدمت عبارات مؤثرة على سبيل المثال "خطر البقاء"، "سرقة الوظائف".

 

قامت بالفعل حملة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشراء خدمات "كامريدج أناليتيكا" للتأثير على الناخبين. وانتشر الخطاب الشعبوي المتلاعب بالعواطف والمثير للغضب ضد سياسات الهجرة وتأمين أوباما الصحي للفقراء

بل وسعى المؤيدون للخروج من الاتحاد الأوروبي إلى نشر أخبار ملفقة. وصل عدد التغريدات على تويتر التي أشارت لموضوع "بريكزيت" إلى حوالي 7 ملايين تغريدة ومالت أغلبية التغريدات لصالح الخروج. الإحصائيات تشير إلى أن التفاعلات المؤيدة للانفصال على أنستغرام كانت ضعف التفاعلات المؤيدة، أما في بقية شبكات التواصل الاجتماعي فقد وصلت إلى خمسة أضعاف.

 

فيما بدا من الواضح أنّ هؤلاء الذين كانوا على الحياد اتجهوا للتصويت لصالح الخروج. فمثلا بعض مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي لديهم عنصرية باتجاه الأجانب، أو خوف من فقدان وظائفهم، هؤلاء شكلوا الفارق بالانتخابات، ولعبت شركات بعضها مجهول حتى اليوم، الدور الأساس في توجيه الإعلانات التجارية والأخبار الزائفة والتفاعلات الشعبوية بناء على المعلومات المتوفرة عن مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي.

ماذا عن الانتخابات الأميركية الأخيرة؟

هناك أدلة تشير إلى أن عبارات الغضب تقوم بتهييج العواطف وتنتشر أسرع من العبارات التي تركز على الحجج العقلانية أو الاقتصادية. وقد قامت بالفعل حملة الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشراء خدمات "كامريدج أناليتيكا" للتأثير على الناخبين. وانتشر الخطاب الشعبوي المتلاعب بالعواطف والمثير للغضب ضد سياسات الهجرة وتأمين أوباما الصحي للفقراء وذوي الدخل المحدود، مع أن كل ما أشيع من قبل حملة ترمب لم يملك دليلا منطقيا أو عقلانيا.

 

الأهم من ذلك أن الرئيس التنفيذي لشركة "كامبريدج أناليتيكا" كان قد اتصل بجوليان أسانج مؤسس "ويكي ليكس" وطلب منه نشر رسائل البريد الإلكتروني التي كانت قد حصلت عليها "ويكي ليكس" من البريد الإلكتروني الشخصي لمنافسة ترمب في ذلك الحين هيلاري كلينتون. إلا أن أسانج رفض الطلب. في حين أشارت استطلاعات الرأي إلى تقدم كلينتون قبل الانتخابات بفترة بسيطة، نشرت صحف أميركية مقتطفات مسربة من البريد الإلكتروني للأخيرة متهمة إياها باستخدام بريدها الشخصي في مسائل تتعلق بالأمن القومي للولايات المتحدة. وهنا طغت مرة أخرى لغة خطاب ترهيبية على مواقع التواصل الاجتماعي تشكك في قدرة كلينتون على قيادة الولايات المتحدة.

لا نستطيع الجزم بأن شبكات التواصل الاجتماعي هي المؤثر الأقوى في التأثير بالرأي العام، فهناك وسائل الإعلام والصحف والندوات وغيرها. ولكن الأكيد أن لها من الأثر الكثير
لا نستطيع الجزم بأن شبكات التواصل الاجتماعي هي المؤثر الأقوى في التأثير بالرأي العام، فهناك وسائل الإعلام والصحف والندوات وغيرها. ولكن الأكيد أن لها من الأثر الكثير
 
سيكولوجية الجماهير

ذكر الطبيب وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" أنّه ما إن ينضوي الفرد داخل صفوف الجماهير، فإنه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة. فهو عندما يكون فردا معزولا يكون مثقفا متعقلا، ولكنه ما إن ينضم إلى الجمهور حتى يخضع للأغلبية. ومن يجيد إيهام الجماهير يصبح سيدا لهم، ومن يُحاول قشع الأوهام عن أعينهم يصبح ضحيتهم. من الواضح أن الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها. وقد رأينا من تجربة "بريكزيت" والانتخابات الأميركية كيف تم استغلال شبكات التواصل الاجتماعي لفرض السّطوة عبر العبارات والصور المؤثرة، حيث انقاد العديد لمخالفة مصالحهم الشخصية.

لا نستطيع الجزم بأن شبكات التواصل الاجتماعي هي المؤثر الأقوى في التأثير بالرأي العام، فهناك وسائل الإعلام والصحف والندوات وغيرها. ولكن الأكيد أن لها من الأثر الكثير، ولهذا تسعى الأحزاب والحكومات إلى تشكيل ملايين الحسابات الوهمية التي تهدف للتلاعب بالرأي العام تسمى بالذباب الإلكتروني، حيث تقوم هذه الحسابات ببث تفاعلات تعبر عن الجهة المستفيدة. أثبت استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وشركات تحليل البيانات والتأثير بالرأي العام في حوالي 28 دولة، فقد ذكر تقرير لـ"بي بي سي" أن الحزب الحاكم في كينيا استعان بخدمات شركة "كامبريدج أناليتيكا" في العام الماضي. كما ذكرت صحيفة التيليغراف البريطانية أن الحزب الوطني الإسكتلندي استخدم إعلانات مدفوعة على فيسبوك للتأثير على الناخبين.

لمواجهة انتقادات غياب الشفافية، قالت "يوتيوب" إنها ستوفر تنبيهات لمستخدميها عند عرض أي مقاطع فيديو من إنتاج أي جهة حكومية أو تتلقى دعما حكوميا، وذلك لتوعية المستخدمين. شبكات التواصل الاجتماعي لها الكثير من الأثر على حياتنا، فإذا كان المستخدم واعيا عليه معرفة كيفية التعامل مع التفاعلات والأخبار التي يراها، وعليه أن ينوع مصادر معرفته وبهذا تصبح هذه الشبكات محلّ تنوير. أما إذا تموضعنا في سياق الجماهير، فسنقع في فقاعة الترشيح وما سيصلنا هو الأفكار المكررة التي تزيد من عزلتنا الثقافية. ولهذا علينا تنويع المصادر قدر الإمكان والتدقيق في صحة المعلومات التي تصلنا وعدم نشر أخبار أو تفاعلات لم نتأكد من صحة مصادرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.