شعار قسم مدونات

عدالة المستضعفين

مدونات - رفح
خارج جدران مأواك الدافئ هذا، ثمة دماء تسفك، وأرواح تزهق، وحرمات تنتهك، وعلى سطح هذا الكوكب الملتهب، تمارس سياسة وحشية ثابتة تستهدف تصفية الشعوب وامتهانها، وعلى طول البلاد وعرضها، تتوالى في المقابل ردود الأفعال الثأرية.
     
يتوهم بعض المثقفين والكتّاب والمنظِّرين أن للكلمات تأثيرا سحريا قادرا على قلب الأوضاع وتبديل الأحوال، وأن حفنة من المقالات والمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي كفيلة بجعلهم ثوارا، فحسبهم أن يتناقشوا مع أميركا عن الديمقراطية وحسبهم أن يحاوروا بوتين عن حقوق الإنسان وعندها ستقتنع قوى الإجرام وتسحب جنودها وقواتها البحرية والجوية والمجوقلة وأجهزة استخباراتها لأنها تحترم النقاش الديمقراطي. لم لم يجربوا مهاراتهم الكلامية قبل أن تمتلئ أرضنا بدبابتهم؟ لِم لَم يمنعوا هذا الظلم بكلماتهم؟ لِم لم يرتلوا المعوذات الخاصة بالديمقراطية وحقوق الإنسان وينفخوا على هؤلاء القتلة قبل أن يستعمروا العالم ؟!
     
إلى المقهورين ومن يقفون بصفهم: يجب أن تدركوا جيدا أن البطش والظلم والاستبداد والاستعمار هي أعمال عنيفة تمت بواسطة القوة وبدون أي غطاء أخلاقي، ولا يمكن أن تنتهي إلا بمثل ما بدأت، وأن هذا النسيج الفاسد لا يمكن تمزيقه إلا بالقوة، وقبل أن يتحدث أحد عن غاندي سأقول له إن غاندي هو الاستثناء وليس القاعدة. هو حالة وحيدة مفردة، غير مسبوقة، ولم تتكرر إلا مرات بسيطة، حالة واحدة مقابل آلاف الحالات التي تم بها إزالة الاستعمار باستعمال العنف.
     

الضعف الذي يطلقون عليه ألقاباً لطيفة مثل (حكمة، أو سلميّة، أو تحلّ بالصبر) حوّلنا إلى ضعفاء بائسين مخذولين نتلقّى صدمة تلو الصدمة

عندما يكون هذا هو الحال في هذا العالم المجنون فمن البديهي، أن تقاوم الضحية جلاديها وأن تتعامل معهم بمنطق (يا قاتل يا مقتول) والتاريخ لا يحابي أحداً يعزز هذا القول ما قاله علي عزت بيجوفيتش: لا توجد خسارة لا يكون الشعب الخاسر مسؤولا عنها، ولا يوجد في مزبلة التاريخ أبرياء، لأنك عندما تكون ضعيفا فهذه خطيئة من وجهة نظر التاريخ، وأن تكون ضعيفا في التاريخ هو عمل لا أخلاقي. نعم ليس أمام المعذّبين إلا أن يأخذوا العدالة بأيديهم. عليهم أن يأخذوا العدالة بأيديهم، فمن العار أن يفلت هؤلاء القتلة بجرائمهم من دون حساب، من العار أن تعيش معذّباً وتموت بذل، البراءة كفر هنا. لا أدري كيف حوّل هذا العالم الضحية إلى مجرم، أو سمِّه إرهابيا كما يحبون أن يطلقوا عليه! بأي حق يُنتظر من الضحية أن تكبح جماح نفسها وأن تمتنع عن اللجوء إلى كل الوسائل الممكنة لمحو هذا الإجرام.

     
يقول فرانز فانون في اقتباس بديع: "محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائما لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تاماً. لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي، فتغيير المستعمَر للعالم الاستعماري ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر، ليس خطاباً في المساواة بين البشر، وإنما هو تأكيد العنف بأصالته المطلقة"
هل احتلت أمريكا العراق بأطبائها ونخبها الفكرية وبأجهزة الكمبيوتر؟ أمريكا احتلت العراق وسيّرت أموره اليومية بواسطة المارينز والمرتزقة فقط.
      
هل احتل الصهاينة فلسطين بالكتب والمذكرات وأبيات الشعر والمؤتمرات الصحفية والوقفات الحقوقية؟ إسرائيل غدت إسرائيل ببطش شارون وجبروت ديّان ووحشية بن غوريون. يضيف فانون أيضاً: "إن الاستعمار ليس آلة مفكرة، ليس جسما مزودا بعقل، إنما هو عنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى..". الأنكى من ذلك، والأشد إيلاما أن البعض لا يزال -بدعوى الفضيلة والتسامح- يدعو لضبط النفس والحوار السلمي وعدم الانجرار لمربع العنف، والتمسك بلغة السّلمية، وما كل هذا إلا ترّهات لا تقيم حقا ولا تزيل باطلا، وقد صدق فيهم فريدريك نيتشه بقوله: " كم هزئت من أولئك الضعفاء الذين يعتبرون أنفسهم صالحين لمجرد أن لا مخالب لهم"
     
أما علم أولئك أن (الشرّ سياج أهله) وأن وضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى، وأننا أوتينا مُلكا فلم نحسن سياسته وكلُ من لا يسوس الملك يخلعه! كان الأولى أن نتعلم كيف نواجه الظلم بدلا من التصرّف بوداعة.. عن تحدّي الغطرسة وليس العيش بتواضع.. عن الطريقة الصحيحة لاكتشاف الكذب بدلا من الصدق الساذج.. ولذلك انتهى المطاف بنا أن تحولنا إلى ضعفاء بائسين مخذولين نتلقّى صدمة تلو الصدمة..
    
هذا الضعف الذي يطلقون عليه ألقابا لطيفة مثل (حكمة، أو سلميّة، أو تحلّ بالصبر) لم يفهم هؤلاء البؤساء درس العدالة كما لم يفهم المستبدّون درس الثورة، لم يفهموا الدرس بعد! لم يفهموا أن هذا "العالم الكيوت" لا يصلح فيه صندوق الانتخابات إلا بصندوق ذخيرة أولا. لم يفهموا أن خلف تلك العروش والتيجان اللامعة سكبت أنهار من الدم، وبالدم فقط قامت، وبالدم فقط بقيت. لم يفهموا بعد أن السلمية خيانة، وأن ذات الشوكة خيرٌ وأبقى؟! أما كان "العالم الكيوت" حاضراً في كل رصاصة استقرت في رأس جزائري؟ أما كان حاضرا حين أُحرقوا أحياء في رابعة؟ أما كان حاضرا في حلب وإدلب ودير الزور؟ ولا أصدق في تعزيز هذا الرأي إلا قول أحمد مطر:
  
أمِنَ التأدّبِ أن أقول لقاتلي
عُذراً إذا جرحتْ يديكَ دمائي؟
أأقولُ للكلبِ العقور تأدُّباً:
دغدِغْ بنابك يا أخي أشلائي؟
     
ويضيف:
ونخافُ إن بدأت لدينا ثورةٌ
مِن أن تكونَ بداية الإنهاءِ
موتى، ولا أحدٌ هنا يرثي لنا
قُمْ وارثنا.. يا آخِـرَ الأحياءِ !

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.