شعار قسم مدونات

جهاد المقدسي.. أما حانَ وقتُ العودةِ؟

BLOGS جهاد مقدسي

كالعادةِ كانتِ الشّمسُ غائبةً في سماءِ كامبريدج الإنجليزيّة، وكالعادةِ كنتُ أحاولُ أن أتابعَ أخبارَ سوريا والحربَ التي طحنتْ أخضرَها ويابسها، وكالعادةِ كنتُ أشربُ قهوتي دون سكّر مُرّةً كما هي تلكَ الأخبارُ التي أقرؤها، ولكنْ، على خلافِ العادةِ كانتِ الأخبارُ بصحفِها وقنواتِها وصفحاتِها موالين، كان أصحابُها أم معارضين، يتناقلونَ خبرَ خروجِ الدّكتورِ مقدسيّ من سوريا، الدّكتور جهاد خرّيج الجامعةِ الأميركيةِ في لندن في مجالِ الإعلامِ، والمُتَحدِّثُ السّابقُ باسمِ الخارجيّةِ السّوريةِ والدبلوماسيّ السّوريّ الذي عملَ في كلٍّ من واشنطن ولندن وبروكسل. تركَ وظيفته، تركَ منصبَه، تركَ كلَّ شيءٍ وغادرَ… للأمانة صعقتُ من الخبرِ، اعتقدْتُ أنّها كذبةٌ فيسبوكيّةٌ، غريب!! كيف لرجلٍ مثل الدّكتور مقدسيّ أن يتركَ السّلطةَ وهو واحدٌ من أهمّ رموزِها؟

 

منذ أسبوعين فقط كانتْ خالتي المولعةُ بحبِّ رموزِ النّظامِ السّوريّ وعلى رأسهم الرئيسُ السّوريّ بشار الأسد، الذي هو بنظرها "الحامي" الوحيدُ للأقلياتِ السّوريّة، والبديل عنه سيكون طويلَ اللحيةِ لابساً جلباباً طويلاً أبيضَ، حليقَ الشنبِ، وعلاماتُ الرّكوعِ ترتسمُ على جبهته، وكانت خالتي نفسها تناقشني بروعة الدّكتور مقدسي، دبلوماسيته، رقيه، هدوئه وقدرته على احتواْءِ النّقاشِ أمامَ النّاسِ بحنكة، أمّا أنا فكنتُ على النقيضِ تماماً نافياً كلَّ تلك الصّفات عنه، أنا أعرفُ كيفَ هو البلدُ، لا يمكنُ لأحدٍ من ذوي الكفاءةِ أن يكونَ بالمكانِ الصّحيحِ في بلدي، أعرفُ أنّ الواسطةَ هي كلُّ شيءٍ، فكيفَ لرجلٍ مُثَقَّفٍ مُتَعَلِّمٍ نظيفٍ شريفٍ أن يكونَ بمكانٍ مهمٍّ كهذا!

 

شاركَ جهاد بمفاوضاتِ جنيف، ولكن اتَّهمَتْه بعضُ أطيافِ المعارضةِ بالنفاق طالبينَ منه أن يذهبَ ويجلسَ على طاولةِ النّظامِ
شاركَ جهاد بمفاوضاتِ جنيف، ولكن اتَّهمَتْه بعضُ أطيافِ المعارضةِ بالنفاق طالبينَ منه أن يذهبَ ويجلسَ على طاولةِ النّظامِ
 

أعرفُ أنّ موقفي كان حينئذٍ طفوليّاً، غيرَ منطقيٍّ، رافضاً للواقعِ وغبيّاً، لكنْ للأمانةِ ما كنتُ قادراً ولا لوهلةٍ أنْ أقتنعَ بأنّ شخصَ الدكتورِ مقدسيّ يمكنُ أن يقنعني ويغيّرَ من رأيي ويثبتَ لي خطئي، وبعدَ فترةٍ حاولتُ التّعرّفَ على هذا الشّخصِ بطريقةٍ أعمق، قرأتُ، تابعتُ وحللتُ تصريحاتِه، إلى أن سمعتُ له مقابلةً مع قناة البي بي سي الإنجليزيّة يفسّر فيها سببَ خروجِه من دمشقَ، بجملةٍ واحدةٍ فقط، استطاعَ قلْبَ قناعتي ١٨٠ درجةً.

 

يقولُ مقدسيّ بما معناه للمذيعِ البريطانيّ: "أنظرْ سيّدي، كنتُ أقوم بوظيفتي وأمارسُ دوري في بلدِي على أملٍ أن يكونَ هناك حلٌّ جذريٌّ وحقيقيٌّ للأزمةِ في البلدِ، بعدَ فترةٍ من الزّمنِ والصّبرِ اقتنعتُ أنّ الطريقَ الذي تتبعُه السّلطةُ في سوريا ليسَ هو الطّريقَ الصّحيحَ! فقررت الاستقالةَ وقدمتُها وخرجتُ".

 

بكلِّ بساطةٍ، هذه الجملةُ كانتْ تمثّلني، تمثّلني لأنّها نابعةٌ عن تجربةٍ وصبر واستنتاجٍ نابعٍ عن خبرةٍ وليسَ عن عاطفةٍ، وهذا المنهجُ الذي أُسمّيه المنهجَ العلميّ، والذي فشلتُ -في البدايةِ- في تطبيقه، افْترضِ افتراضاً، جرِّبْه، حصِّلْ نتاْئِجَه، حللها، استنتجْ، وتصرّفْ اعتماداً على التجربة، لكنّ الرّجلَ اتُّهِمَ بكلّ شيءٍ، بأنه طُرِدَ من السّلطةِ بعدَ خطأٍ قامَ به بنظرِهم عندَما تحدّثَ عن الأسلحةِ الكيماوية، وآخرون اختلقوا سيناريوهاتٍ وأكاذيبَ حولَه، وكيف أنّه كان مُحْجِماً ودُفِعَ دفعاً للاستقالة، كأنّنا نعيشُ في سويسرا ليُعامَلَ بهذه الطريقة اللطيفة! وآخرونَ اتّهموه بالخيانة والانشقاقِ، وهو الذي ردَّدَها مرارا وتكرارا أنّه استقالَ، لا يهمُّ ما يقولُه أصلاً، فحتّى لو استلمَ هؤلاء الاستقالةَ بأنفسِهم سَيُخَوّنونه ويشوّهونَ سمعتَه كما اعتدنا.

 

دكتور جهاد نحنُ بحاجةٍ لرجالٍ ونساءٍ يسعون أولاً وأخيراً لحمايةِ البلد والخروجِ به من محنته، واليومَ لا أدري إن كنتَ تشاطرني الرّأي، لكنّهم كلُّهم يسعون لحماية مواقعهم

عملَ المقدسيّ على أنْ يكونَ بنظري صوتَ العقلِ والرّصانة الدّبلوماسيّة في محنةِ بلدي، فهو من منظوري يُعدُّ طرفاً ثالثاً في البلد، يؤمنُ ببعضِ الأمورِ الجيّدة لدى السّلطةِ ويؤمنُ بأمورٍ أخرى جيّدةٍ هي أيضاً عند المعارضة، تابعوا ما قاله، لا تقوِّلوه، اسمعوا كلامه، ولا تحلِّلوه بعاطفتكم، اقرؤوا كتاباتِه، وحاولوا فهمَها دون تصنيفٍ مُسبقٍ أو افتراضاتٍ لنيّةٍ معيَّنةٍ.

 

في قصة لاحقةٍ، شاركَ جهاد بمفاوضاتِ جنيف وحصلَ تماماً ما توقّعْتُ، اتَّهمَتْه بعضُ أطيافِ المعارضةِ بالنفاق طالبينَ منه -إذا ما أصرَّ على موقفِه الهادِفِ لإيجادِ حلٍّ منطقيٍّ بعيدٍ عن الخيالِ الفلسفيّ- أن يذهبَ ويجلسَ على طاولةِ النّظامِ لا أن يشاركَ المعارضةَ طاولتها، واتّهمَه النّظامُ وموالوه أيضاً أنّه يطعنهم في الظهر وسمعنا وقرأنا تلك الصّحفَ " الوطنيّة " التي وصلتْ لدرجةِ شخصنةِ المشاكلِ معه لمجرِّدِ رغبتِهم بالتّقليلِ من جهدِه وعزيمتِه بنظرِ جمهورِ الموالاةِ. 

 

دكتور جهاد، اسمحْ لي أن أتوجَّه لكَ بهذا المقالِ مباشرةً، تشكّلتْ لديَّ قناعةٌ كبيرةٌ بأنّ الأمورَ مهما كانتْ لا يمكِنُها أنْ تكونَ سوداءَ تماماً أو بيضاءَ تماماً، فالشّيطان مثلاً كان ملاكاً، وسيّدنا آدم سيّد الخلقِ قد خالفَ شرْعَ الله، والمجرمُ هتلر كان رسّاماً وفناناً مرهفَ الأحاسيس، والزعيم المُبجل جمال عبد الناصر جلبَ الدّمارَ لسوريا عندما جلبَ المخابراتِ والتأميم.

 

أترى معي؟ كلها أمثلةٌ تؤكِّدُ قناعتي، فلا شيءَ مطلقٌ في الحياةِ، أمّا أن تُحارَبَ من متطرفي الطرفين، فهذا بالنسبة لي يدلُّ على أنّكَ الأقربُ إلى الوسطيّة والأبعدُ عن الرّمادية. دكتور جهاد نحنُ بحاجةٍ لرجالٍ ونساءٍ يسعون أولاً وأخيراً لحمايةِ البلد والخروجِ به من محنته، واليومَ لا أدري إن كنتَ تشاطرني الرّأي، لكنّهم كلُّهم -وأقصد هنا من يوجد على السّاحة السّياسية- يسعون لحماية مواقعهم، ويفهمون من حولهم بأنّهم سوريا فإن هم رحلوا فقد رحل البلدُ، دكتور نحنُ بحاجةٍ إلى صوتٍ قويٍّ في سوريا، صوتٍ قادرٍ على جمعِ الطّرفين، صوتٍ لم تتلطخ يَدَا صاحبِه بالدَّمِ السّوريّ أو بغيره، صوتٍ أرادَ حلاً، فجاهدَ لأجله، وفشل لأنّه كان وحيداً.

 

التطبيلُ يكونُ للأشخاصِ الذين هم بموقعٍ مهمٍّ ما، موقع يمكنُ للمطبّلين أن يستفيدوا منه، أما الآن فالكلُّ يشهدُ أنك ترفّعتَ عن كلّ هذا مع أنّك كنتَ قادراً على أن تحصلَ على ما لم يحلمْ به أيٌّ منا
التطبيلُ يكونُ للأشخاصِ الذين هم بموقعٍ مهمٍّ ما، موقع يمكنُ للمطبّلين أن يستفيدوا منه، أما الآن فالكلُّ يشهدُ أنك ترفّعتَ عن كلّ هذا مع أنّك كنتَ قادراً على أن تحصلَ على ما لم يحلمْ به أيٌّ منا
 

دكتور، يكفي أنّك انسحبتَ مؤخّراً من السّياسة لأنّكَ لم تعدْ قادراً على الإكمالِ وما من أحدٍ منّا اصطفَّ فعلاً معكَ لخوفٍ أو عدمِ اكتراثٍ أو غيرها من الأمور، كم هم هؤلاء الذين انسحبوا رغم " الفشل"!؟ لا أحدَ صدِّقْنِي، هناك من يحوّلُ الفشلَ إلى انتصارٍ يا رجل، تحدّثنا مرّةً، وقد شدَّدْتَ أنّكَ -بعدَ كلِّ ما قمتِ به لأجلِ البلدِ كواجبٍ- أصبحتَ تريدُ أن تؤمّنَ على مستقبلِ أطفالِكَ، وأنّ الوقتَ قد حانَ لأن تعوِّضَهم عن غيابِك الطويلِ، أعتقدُ أنّ أطفالَ سوريا كلهم بحاجةٍ إلى عودتك حتى معارضوك صدقني، فإذا ما كان خصمُهم راقياً فسيرتقون أتذكر جملتك لي؟ " أنا يا مهندُ بن الدّولة، لست ابن النّظام" يا أخي الدولةُ اليوم بحاجة لأمثالك، البلدُ بحاجةٍ لأمثالِك، أنا كسوريٍّ بحاجةٍ لأشعرَ أنّ هناك من يمثِّلُني، ليَ الحقُّ في الطّلبِ ولا أحدَ منهم يستطيعُ مصادرةَ هذا الحقّ.

 

قد ينظرُ الكثيرُ إلى هذا المقالِ كنوعٍ من التطبيلِ والتّزميرِ لشخصك، اسألني: ما تكره؟ أقلْ لك الباذنجان والطبلة، الباذنجان لا أحد يستطيع أن يغيّرَ هذا الأمرَ لديّ، فأكرهه كره العمى، أما عن الطبلة، فالتطبيلُ يكونُ للأشخاصِ الذين هم بموقعٍ مهمٍّ ما، موقع سلطة، موقع قوّة، موقع يمكنُ لنا نحن المطبّلون أن نستفيدَ منه، أما الآن فالكلُّ يشهدُ لك أنك ترفّعتَ عن كلّ هذا مع أنّك كنتَ قادراً على أن تحصلَ على ما لم يحلمْ به أيٌّ منا، لكنك لم تفعل، وأخيراً، أنا، ولغايةِ اليوم، مازلتُ مقتنعاً أنّكَ الشّخصُ الوحيدُ سياسياً الذي سيرضيني ويرضي خالتي سوياً… أما حانَ الوقتُ لكي تعودَ إلى لسياسة وتوفِّقَ بيني وبينها؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.