شعار قسم مدونات

يوم زرنا متحف "الهولوكوست"

مدونات - متحف الهولوكست
"بداية طاردوا الاشتراكيين، ولم أقل شيئاً لأنني لست اشتراكياً
ثم طاردوا عمال النقابات ولم أقل شيئاً لأنني لست نقابياً
فطاردوا اليهود ولم أقل شيئاً لأنني لست يهودياً
وعندما جاءوا لمطاردتي، لم أجد من يقول شيئاً لأجلي"
ذلك ما كتبه القس البروتستانتي مارتن نيمللر (1892-1984) الذي كان مطلع شبابه معادياً للسامية، ثم تحول معارضاً صريحاً لأدولف هتلر فاعتقل في معسكرات الإبادة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، مندداً بكل شيطان أخرس سكت عن الحق حين أتيح له الكلام.

تم تداول هذه الأبيات بتنويعات مختلفة ولا سيما في الفترة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بحسب البلد أو الحالة التي دفعت الناشطين إلى الاستدلال بها، سواء في أميركا بعد انتخاب الرئيس دونالد ترمب، أو خلال الأزمة الخليجية ومطالب إغلاق وسائل الإعلام، أو أخيراً في المهاترات اللبنانية- السورية التي لا تكاد تبرد حتى تستعر من جديد. ولكن، مهما كان من تنويع على الأصل، تبقى الصيغة الأولى أو تلك المتعارف عليها والمحفورة على أحد جدران متحف الهولوكوست في واشنطن العاصمة، الأفضل والأبلغ تعبيراً بلا منازع.

لم يكن ذلك التعاطف الصادق إلا لحظة عابرة استفاقت من بعدها، مستكينة إلى تلك الخانات الواضحة في رأسها. هذه للحب، تلك للكراهية، هذه للتعاطف، تلك للواجب، وهكذا دواليك. كل الملفات مرتبة ضمن نظام دقيق وصارم كأرشيف الدول العظمى.

كنت زرت المتحف المذكور منذ بضعة سنوات برفقة والدتي التي جاءت لزيارتي في واشنطن، بعد أخذ ورد طويل لأنها في البداية تمنعت. دخلنا المتحف فإذا بنا في غرفة جلوس على طراز الأربعينات. كنبات بلون أخضر زاه تتوسطها طاولة خشبي عليها مزهرية، خلفها نافذة بستائر خفيفة، وفي زاوية نبتة وفي أخرى إضاءة جانبية تكشف طرف مكتبة. ألفة المكان تدعوك الى أن ترتمي على إحدى الكنبات قبل أن تنتقل منها إلى مطبخ بألوان هادئة، فيه أدوات كهربائية كانت حديثة في ذلك الزمن، وفرن فيه طعام، وبعض الكعك الموضوع على الطاولة.

ومرة أخرى، قبل أن تمد يدك لتتناول كعكة تظنها ساخنة ومقرمشة، يدعوك التسجيل الصوتي الى الانتقال للغرفة الثالثة، وهي غرفة الطفل دانيال حيث السرير والألعاب وكتب التلوين وثياب المدرسة وغيرها من أغراضه. وهكذا، بعد أن تكون قد تعلقت عاطفياً بمنزل العائلة وأشياء الولد وتآلفت مع بعض جوانب حياته، تبدأ معه رحلة المداهمات، وتخريب المنزل الذي كنت أحببته للتو. فتشهد على تكسير الأغراض واحراقها، قبل أن تأتي لحظة الاعتقال، ونقل الناس إلى قطارات تقلهم إلى المعسكرات حيث المصير المجهول آنذاك، والمعروف لنا سلفاً.

لكن قبلها، هناك لحظات الافتراق عن الأهل، وموت أحدهما بأفران الغاز، ثم ضياع الآخر ضياعاً تاماً. وتأتي التفاصيل القاتلة في محاكاة ظروف الحياة والعمل في المعسكرات، والتنقل بين الزنازين مع خلفية من أصوات قرقعة حديد أو أنين غير معروف المصدر في ظلمة تطبق على النفس والقلب معاً.

لم تستطع أمي متابعة الزيارة، فخرجنا سريعاً إلى باحة المتحف حيث متجر التذكارات، فإذا بها تقول بشيء من العصبية كمن يستدرك نفسه بعد لحظة ضعف "وماذا يعني؟ نحن لدينا مئة دانيال! هل يعتقد هؤلاء أن ما يفعلونه بنا قليل؟". ثم نهرتني وأمرتني بالخروج من المكان، فعدت طفلة صغيرة أذعن لأوامرها.

نظرت إلى أمي ولم أصدق أنها نفس المرأة التي كانت معي في الداخل تكابد الدمعة وتكتم الغصة. كأنها فجأة تحولت إلى شخص آخر، أو ربما استعادت ذاتها الأولى، ولم يكن ذلك التعاطف الصادق إلا لحظة عابرة استفاقت من بعدها، مستكينة إلى تلك الخانات الواضحة في رأسها. هذه للحب، تلك للكراهية، هذه للتعاطف، تلك للواجب، وهكذا دواليك. كل الملفات مرتبة ضمن نظام دقيق وصارم كأرشيف الدول العظمى.

كان مبهراً أن أكتشف في وقت مبكر نسبياً أن تلك المرأة الطيبة والصارمة في مواقفها الأخلاقية، والتي علمتني ألا أسكت عن الظلم مهما كلفني ذلك، عاقبت نفسها لأنها للحظة تعاطفت كأي إنسان سوي وصادق، مع طفل سحب من دفء منزله إلى معسكرات التعذيب والقتل الممنهج.

ثم جاء هذا الولد دانيال، ليقلب الأمور رأساً على عقب، ويدخل الملفات بعضها ببعض، فلا نعود نعلم من نحب ومن نكره ومن نؤيد ومن نعادي. الأجدى بطبيعة الحال، إشاحة النظر عنه وإبعاده عن مخيلتنا، لنستكين إلى ما نعرفه ونألفه. حاولت مناقشة أمي في موقفها، من أنه صحيح لدينا مئة دانيال، لكن ذلك لا يلغي إن دانيال هذا، ضحية تستحق ليس التعاطف فحسب، بل قول كلمة حق. لم تشأ أمي أن تناقش كثيراً، ولم أعد إحرجها.

طبعاً لم يكن المطلوب منها أن ترفع لواء دانيال على حساب المئة الآخرين ممن لديها (أو لدينا)، ولكن كان مبهراً أن أكتشف في وقت مبكر نسبياً أن تلك المرأة الطيبة والصارمة في مواقفها الأخلاقية، والتي علمتني ألا أسكت عن الظلم مهما كلفني ذلك، عاقبت نفسها لأنها للحظة تعاطفت كأي إنسان سوي وصادق، مع طفل سحب من دفء منزله وأمانه إلى معسكرات التعذيب والقتل الممنهج. لكن عن أي إنسان سوي فينا نتحدث ونحن مشبعون بأمراض بلداننا ومجتمعاتنا وأنظمة حكمنا؟

اليوم، مع كل ما يجري من حولنا من حالات مشابهة تخضع لأخذ ورد ونقاش، وتحتاج المواقف البديهية منها لأدلة ومحاججة وإثباتات، فيما الإفصاح عن ذلك البديهي يعد شجاعة غير مسبوقة وعملاً بطولياً.. هل يبقى من مكان فينا لتلك الفطرة السوية؟  لا يعجبني الوعظ ولا أهوى المقاربات الرمزية، لكن الأمثلة الصارخة في وجهنا اليوم تدفعنا دفعاً إلى استعادة تلك الأبيات وإن بتصرف قد يعكس بعضاً من بؤس أحوالنا.. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.