شعار قسم مدونات

تدجين لا تجديد

blogs - قرآن في الغرب
لم تكن الأطروحة الشهيرة للسياسي الأميركي (ليونارد بايندر) في كتابه الصادر سنة 1988 تحت عنوان "الليبرالية الإسلامية" أسلوباً مبتكراً في تدجين الخطاب الإسلامي وترويضه ثم تركيعه ليتماهى مع المصالح الغربية، الأميركية بالدرجة الأولى. بل كان ذلك ثمرة متأخرة من سلسلة طويلة في تاريخ الاستبداد الفكري الغربي ضد المسلمين، تمثل في السياسة الاستعمارية الأوروبية بشكل مبكر. ومهما كان توجه الفكر الاستعماري الغربي أو محتوى أيديولوجيته واختلافه عن نظرائه، فإنها جميعها في المحصلة نتاج لبذرة واحدة، يتحكم فيها النموذج المادي في تعريف الدولة والسيادة والعلاقات الدولية وشكل الاقتصاد.

ولعلنا نلاحظ مدى الاختلاف والتصارع بين الليبراليين واليساريين على طول القرن الماضي وما شهده من تحولات مهولة أدت إلى انتصار معسكر الليبراليين على معسكر اليساريين، في الأصل، إلا أن كلا النموذجين يلتقيان في نقاط كثيرة جداً ولعل أبرز السمات التي يلتقيان فيها هي السيطرة على الفرد والتمكن من استقلاليته وحرية فكره بما يخدم النموذج المادي المطبّق، مع اختلاف الوسائل والمناهج المتبعة.

الدولة الحديثة بشكل عام أصبحت دولة شمولية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة وهي تختلف إلى حد كبيرعن فكرة الدولة التي سادت قبل القرن الثامن عشر، وتقف على النقيض تماماً من فكرة دولة العصور الوسطى وما قبلها، مع أن مصطلح الدولة مصطلح حديث في حد ذاته. فالحديث عن الحريّة الفكرية بالدرجة الأساسية في كنف الدولة الحديثة أمر ليس صحيح إلى حد بعيد، خصوصاً وأن العلمانية الشاملة قد أصبحت أداة الدولة الحديثة في كل شيء، تمكنت من الحيز العام والخاص على حد سواء، وصار الحديث عن الاستقلالية الفردية حلم طوباوي مريح ينخدع به كثيرين.

وبالرغم من أن الليبرالية الجديدة تتجه نحو الخوصصة وتعزيز دور المؤسسات الخاصة في رسم معالم الحكم وشكل الاقتصاد والسياسة إلا أن هذه المؤسسات هي الأخرى أدوات في يد الدولة لا يمكن أن تخرج عن المعالم التي ترسمها، وهي بالدرجة الأولى كبرى الشركات التي تسحق النقابات العمالية وتحافظ على مصالح امبراطوريات المال كالشركات الكبرى والبنوك ولا تعبر عن البنى المجتمعية لا مجتمعياً ولا اقتصادياً.

التدجين لم يشمل الخطاب الإسلامي وحده بل الخطابات التحررية الأخرى التي تسانده في صد الاجتياح الفكري، ولكن، مستخدمة الثقافة الانهزامية تجاه المستبد الغربي منهجاً للتحرر منه والوقوف ضده، وهذه من المفارقات العجيبة التي لا يمكن السكوت عنها.

لعلنا نذكر هنا كمثال "الحلم الأميركي" الذي نشأ مع بداية القرن العشرين وأتت الرأسمالية تزفه إلى كل بيت أميركي وتملأه بالرفاهية والعمل الوفير وقد نجح هذا النموذج نجاحاً محدوداً ثم انتكس بعد سنين ليست بالكثيرة، وأصبح نموذجا لا يصنع الفقر ويمنع العدالة الاجتماعية فحسب؛ بل يشعل فتيل الحروب ويتخذ كأداة لقمع الحرية.

الشاهد أن أغلب النماذج الأيديولوجية على امتداد الكرة الأرضية رضخت للنموذج الرأسمالي والاشتراكي تحت الحديد والنار، إلا أن مصالحها التي كثرت في المنطقة الإسلامية (الشرق الأوسط بالدرجة الأولى) شهدت مقاومة شديدة على عدة أصعدة، من جهة على صعيد قبول الآخر المستعمر الذي كانت جيوشه قبل فترة وجيزة تغوص في رمال العرب وتكتب عنهم ما أسميه بـ"وقود الفاشية الأوروبية في تحقير الآخر"، ورحلت تاركة وراءها بذور تدجين الخطاب الإسلامي الذي كان أداة المقاومة للمستعمر، ومن جهة أخرى لرفضها فكرة سيادة النموذج المادي في الأرض وشعورها بالظلم والاستبداد الشديدين اللذين شوشا ويشوشان عليها أي مشروع نهضوي أصيل لا يتماهى مع مصالح الغرب ويقف معها بنديّة القيَميّة الرافضة للمادية.

هذا الاستبداد في قهر الخطاب الإسلامي والتشويش عليه ضاهر منذ اللحظات الأولى للحركات الإسلامية الحديثة إلى يومنا هذا، وزادت حدته بعد 11 سبتمبر حتى أصبح التنظير لنموذج إسلامي محل شبهة إن لم يكن جريمة تستحق العقاب. و

هذه الاستراتيجية على كل حال ليست عفوية بل منهجاً يدرس ويطبق بشكل نظري وعملي مستخدماً القوة المادية (العسكرية) وسلاح التقانة في فرضه بالقوة وبأي وسيلة، وهذا ما يفسر التفشي السريع للرأسمالية التي تشهد البلدان الراعية لها تطوراً متلاحقاً في مجال التقانة وفي المقابل تراجع ملحوظ للاشتراكية التي تتباهى البلدان التي عانت من مشاكل اقتصادية وسياسية من بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

في هذا السياق أتذكر مقولة طريفة لكنها من الدقة والعُمق ما يصف الاستبداد الغربي تجاه الإسلام؛ إذ يقول مصطفى الرافعي: "نحن من التنظير بين المدنيتين الأوروبية والإسلامية كأننا بإزاء جوادين، أحدهما مُخلّى له الطريق إلى غايته، والآخر يضرب وجهه مرة ويصرف بالعوائق مرة، ومع ذلك يقابل بينهما في السباق! لو حكم الشرق أوروبه لظهر جوادها حماراً..".

كتب ألبرت حوراني مبكراً يصف هذا التدجين الذي أسماه "التفسير الليبرالي للقرآن" أن المستعمرين الأوروبيين يصرون على تثقيف أهالي شمالي أفريقيا على هذه الثقافة الملبرلة. وكل الملفات الساخنة على الصفيح منذ تلك الأيام إلى يومنا هذا هي ملفات في أصلها تقف مناقضة ومتعارضة مع المصالح الغربية وغير قابلة للتمييع، لذلك نشهد تفسيرات وتأويلات حداثية هي في أصلها مرسومة ومؤدلجة غرضها الأخير لي عنق الأحكام الشرعية لتتماهى مع المصالح الغربية أو على الأقل لكي لا تقف في مواجهتها باعتبارها الثقافة الغالبة المهيمنة. ومن الطريف جداً أننا لم نشهد على سبيل المثال مشروعاً فكرياً واحداً منزعجاً من تعارض نصوص التراث الإسلامي مع الثقافة الإفريقية.

نلغي من الشريعة ما يُرضي النظام العالمي الجديد، ونفسر القرآن بالمنطق الدياليكتيكي ونشكك في المقدسات ونعبث بالبنية الاجتماعية مطبقين نظريات ذات مركزية أوروبية على مجتمعات لها خصوصياتها.

ولعلّ التدجين لم يشمل الخطاب والفكر الإسلامي وحده بل الخطابات التحررية الأخرى التي تسانده في صد الاجتياح الفكري أيضاً، ولكن بشكل أقل، مستخدمة الثقافة الانهزامية المحبطة تجاه المستبد الغربي منهجاً للتحرر منه والوقوف ضده، وهذه من المفارقات العجيبة التي لا يمكن السكوت عنها. ومن المؤكد أنها هي الأخرى واحدة من تجليات فتور العقل العربي الذي لم يتصدّ لها معبّراً عن مرحلة فتور عقلية واضحة يجب مواجهتها بصراحة تمهيداً لتجاوزها.

لكننا في هذه المسألة مجدداً نقف عند حاجز الانقسام الرهيب الحاصل في الأمة الإسلامية ذاتها على امتدادها الأفقي والرأسي (أي على الصعيد الجغرافي والثقافي) وهذا الانقسام ناتج في الأساس عن تبني الأيديولوجيات والأفكار الغربية في الثقافة العربية والإسلامية ذاتها؛ نشهد مثلاً في حرب تحرير الجزائر أن الشعب كان توجهه التحرري بالدرجة الأولى يستند إلى الثقافة الإسلامية الحصينة ضد معسكر الإمبريالية، لكن في دائرة النخبة الجزائرية التي كانت تتفاوض مع المستعمر الفرنسي كانت مبادئ الثورة الفرنسية والفكر الفرانكفوني (أداة المستعمِر) هي الحاضرة في أذهان المستعمَر وفي مفاوضاته، هذا يعني أن الاختلاف ذاته قد انتقل إلى مرحلة جديدة تماماً لا يخرج عن القالب الذي يرسمه ويسيطر عليه صاحب الثقافة الغالبة.

وفي اعتقادنا أن السؤال الشهير الذي يجتاح أدبياتنا الدينية والوطنية على حد سواء، هو سؤال مدجّن مصاغ على نحو مجمل ومبهم: لماذا تأخرنا وتقدّم الغرب؟ وهذا يتضمن بالضرورة اعتقاد أن تقدّمنا مرهون بنفس الشروط التي "تقدم" بها الغرب أو العكس، فنهرع إلى اغتصاب اللغة كي نطوعها بما يتماشى مع هذا السؤال، ونلغي من الشريعة ما يُرضي النظام العالمي الجديد، ونفسر القرآن بالمنطق الدياليكتيكي ونشكك في المقدسات ونعبث بالبنية الاجتماعية مطبقين نظريات ذات (مركزية أوروبية) على مجتمعات لها خصوصيات وحيثيات تختلف عنها تماماً وترفضها، ومن ثم يراد منا أن نسمي ذلك الهدم الممنهج كله تجديداً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.