شعار قسم مدونات

مهاتير والديمقراطية

blogs - malaysia

في اليوم الأخير من شهر أكتوبر عام 2003، تساقطت دموع مهاتير محمد مُعلنة نهاية عهد أطول زعيم مُنتخب في منطقة جنوب شرق آسيا، هو مهاتير بن محمد، الطبيب الذي باع "الموز المقلي" في صِباه، ابن والديه العجوزين الفقيرين، الصبي الذي تَمرد على نزواته الطفولية، وهب جُل وقته لكسب قوت يومٍ ليس له، ليصبح الطبيب "المجاني" في قريته الفقيرة النائية.
 

انتخب مهاتير رئيساً لوزراء ماليزيا عام 1981، وجلس اثنان وعشرون عاماً على كرسي زعامة البلاد، ليُعلن بعد ذلك ومن تلقاء نفسه عن تخليه عن هذا الكرسي الذي سئم منه كما يقول، فاسحاً الطريق لمن بعد لإكمال المسيرة. تفرغ مهاتير بعدها للكتابة، ومستشاراً لكُبرى الشركات الحكومية، ومع بلوغه الحادي والتسعون من عُمره، أَعلن عن تشكيل حزب جديد معارض للحكومة الحالية بعد عزله من حزبه "أمنو" الذي خدمه لقرابة نصف قرن، وجُرد من كافة مناصبه الاستشارية والحزبية لقوله "لا" للحكومة.
 

الماليزيين يفتخرون بتعدد دياناتهم وثقافاتهم وأعراقهم، فحرية الدين مكفولة للجميع، حوالي 60 بالمئة من سُكانها يدينون بالإسلام وهو الدين الرسمي و40 بالمئة يدينون بالمسيحية والبوذية والهندوسية والكنفوشية وغيرها.

بعد خبرته الطويلة في الحُكم، وعَبر مُدونته الشهيرة، كتب مهاتير مقالاً طويله أسماه "الديمقراطية"، أشار فيه إلى أن معظم البلدان المُستقلة حديثاً اختارت الديمقراطية لبناء أنظمتها السياسية، حيث كانت تلك الدول تعتقد بأنها ستحصل على حكومات جيدة كون الشعب سيختار قادته، ويجب على الشعب أن يختار قادة جيدين بالتأكيد، لكن تلك الشعوب الآن تتأسف على اليوم الذي اختارت فيه الديمقراطية، فقد أظهرت الدراسات أن الأنظمة عُرضة لسوء الاستخدام، وقد ينتخب الناس أشخاصاً يسيئون استخدام السلطة الممنوحة لهم، ولديهم القدرة على البقاء في السلطة لعقود طويلة تقودهم لأن يصبحوا قادة دكتاتوريين.
 

يقول مهاتير: "ما يحدث عادة هو أنه بمجرد أن يتمكن هؤلاء القادة المنتخبون من السيطرة على الحكومة، سيكونون قادرين على التلاعب بالانتخابات ونتائجها حتى لا يهزموا هم أو أحزابهم، فتغيير حدود الدوائر الانتخابية من الطرق المُتبعة حديثاً للسيطرة على عدد الأصوات، إلى جانب تغيير هوية الناخبين بحيث يمكن للشخص الانتخاب مرتين أو ثلاث مرات في مختلف مراكز التصويت".
 

يعتقد مهاتير جازماً أن فُرص الحزب الحاكم كبيرة جداً للتزوير أكثر بكثير من سيطرته على آلية التصويت بأكملها، فمن يُسيطر على هيئة الانتخابات يكونون في العادة موظفين حكوميين وقد يتعرضون للرشوة أو التهديد، ولهذا فعملية إعادة فرز الأصوات تكون النتائج مغايرة تماماً للنتائج الأولية، فقد يكون الخطأ بشرياً أو قد يكون متعمداً، وتمتلك الأحزاب الحاكمة الإمكانية لتغيير النتائج رغم وجود مراقبين من المعارضة، وفي بعض الأحيان، يُدعى المراقبون الأجانب للإشراف على العملية الانتخابية، فقد يجدون شيئاً خاطئاً، لكن من غير المرجح أن تحترم تقاريرهم ما لم يكن الغش صارخاً.
 

يُضيف مهاتير في مقاله: "نرى في العديد من الدول الجديدة رفض كامل لنتائج العملية الانتخابية، ويصحب ذلك أعمال شغب وعنف، وهذا من شأنه أن يُعطي أعذاراً للحكومة لكي تستدعي الجيش الذين سيتولون السلطة فيما بعد ويشكلون الحكومة في نهاية الأمر، وبمجرد حدوث ذلك فقبلة الوداع على الديمقراطية".
 

الديمقراطية كما يقول مهاتير محمد، تتفاوت من شعب لآخر، وكل أمه لها طريقتها الخاصة في تطبيقها، فلا حرية مُطلقة ولا انعزال تام.

من الواضح أن الديمقراطية ليست ضماناً للحكم الصالح كما يرى مهاتير، فهي صالحة في معظم الدول الغربية بسبب ثقافة شعوبها، فهم أكثر نضجاً وخبرة، ويعرفون الثمن الذي سيضطرون إلى دفع ثمنه إذا ما اختاروا الشخص الخطأ، مُشيراً إلى أن الديمقراطية "نظام عظيم" ولكنها ليست مثالية، فالشعوب الغافلة عن حقها لا يُنتظر أن يُقدم لها شيئاً، وهذا ما سيقود في النهاية إلى حكومة من المحتالين.
 

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل كان مهاتير ديمقراطياً؟
هذا السؤال قادني إلى كتاب "مهاتير محمد… عاقل في زمن الجنون" للكاتب الفلسطيني د. عبدالرحيم عبدالواحد، حيث كتب في مقدمة كتابه أن مهاتير يرى في رده على الاتهامات التي تنهال عليه ليلاً ونهاراً بشأن الديمقراطية والحريات وحرية الصحافة والتعبير، أن واقع المجتمع الماليزي وتركيبته العرقية والثقافية المعقدة والظروف والأزمات السياسية والاقتصادية التي عاشتها بلاده تفرض عليه من أجل حماية مكتسبات الشعب والأمة ضرورة الضرب بيد من حديد على كل من يحاول المساس بتلك الإنجازات والثروات والتي من أبرزها أن الماليزيين يفتخرون بتعدد دياناتهم وثقافاتهم وأعراقهم، فحرية الدين مكفولة للجميع، حوالي 60 بالمئة من سُكانها يدينون بالإسلام وهو الدين الرسمي و40 بالمئة يدينون بالمسيحية والبوذية والهندوسية والكنفوشية وغيرها من ديانات الشرق القديمة.
 

أسئلة كثيرة تدور حول شخصية باني نهضة ماليزيا كما يحلو للبعض تسميته، فلم يكن دكتاتوراً ولا ديمقراطياً، بل قبض على العصى من منتصفها، وهذا ما احتاجت إليه ماليزيا في عهده، فالديمقراطية كما يقول تتفاوت من شعب لآخر، وكل أمه لها طريقتها الخاصة في تطبيقها، فلا حرية مُطلقة ولا انعزال تام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.