شعار قسم مدونات

العواطف لا تصنع التغيير

Blogs- egypt
كم هي العواطف التّي تُلهب صدورنا حينما نسمع كلمات رنانة مناصرة لقضايا الأمة ومعبرة عن إرادة شبابها المكلّوم، كلمات تُدغدغ الضمائر وتحرك مارد الاِنعتاق من قيود العبودية والاستبداد والتبعية العمياء، مواقف نادرة من نوعها قل ما نجدها في هذه الأيام الحالكة، التّي عصفت بضمائر النّخب الزائفة، والمواقف الرسمية العميلة، وإعلاماً رسمياً أقل ما يمكن القول عنه أنّه "مسّخرة العصر".
           
الِاستدعاءات كثيرة، آخرها كانت كلمة رئيس مجلس الأمة الكويتي مرزوق الغانم في كلمته التّي القاها بمؤتمر البرلمان الدولي بروسيا، التي هاجم فيها الوفد الإسرائيلي وعلى إثرها خرج الوفد من قاعة المؤتمر، سبقتها كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إزاء ما تتعرض له أقلية روهينغيا في بورما، وقبلها كلمة أمير دولة قطر خلال كلمته التي القاها أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، على غرار قصة الحب السياسية لإسرئيل التي تخللت لقاء الجمعية، التي كان بطلها رئيس انقلاب العسكر بمصر عبدالفتاح السيسي.
            
إن العواطف الجيّاشة وحدها لا تكفي لصنع التّغيير، وكم من الويلاتِ نالتها شعوب العالم في سعيها نحو التّحرر من الاستبداد، معتمدة في نضالها على الِاندفاع العاطفي، وكمثال على ذلك ما نالته الثورة الفرنسية والبلشفيّة في بداياتها، حينما كانت نُخب المجتمع غائبة عن المشهد، أو لنقل خائفة من الفشل المبكر، وخير دليلٍ للشعوب العربية ثورات الربيع العربي، التّي لا زالت في واقعها تشبه المخاض الفرنسي في بدايته، إن لم تكن هناك نقطة حرجة تصنع الفارق نحو النهوض.
         
إن ما تستحقه تضحيات الشارع العربي اليوم هو صنع النّقطة الفاصلة، وكل ذلك لا يتأتى إلا بتأهيل كوكبة شبابية واعية، تعي الواقع وتخوض غمار السياسة
إن ما تستحقه تضحيات الشارع العربي اليوم هو صنع النّقطة الفاصلة، وكل ذلك لا يتأتى إلا بتأهيل كوكبة شبابية واعية، تعي الواقع وتخوض غمار السياسة
 

إن حاجة الشارع العربي اليوم تكمن في من يوجه تلك العواطف ويستثمرها في ما تنهض به الأمة، مهمة ربما ألقت بكاهلها على "النّخب الرسولية" عند إدوارد سعيد بمعنى النّخب الراشدة، نخب صاحبة رسالة خالدة في الحق والعدل، لا تسعى لغايات مادية آنية، ولا تُغريها المناصب وحب التقرب من السلطان. إن التحولات الحضارية واللحظات الفارقة في نهضت الشعوب والأمم، دائما ما تكون بحاجة إلى نقطة حرجة، نقطة من شأنها صنع تحولات جذرية خلال عملية النّضال، تكشف خط السير نحو رؤية واضحة، تعطي جرعة وعياً تُعيد للأمة جوهرها التي فقدته في سباتها العميق، وتخلفها عن الركب الحضاري والإنتاج الثقافي.

          
إن ركائز تلك النّقطة الحرجة لا تنحصر في العواطف والمشاعر الجيّاشة، بل إن ركيزتها الأساسية هي كتلة مجتمعية ضخمة تعتمد على الكم والكيف معاً، الكم الذي يمثل الطاقة المحركة من جموع تلك العواطف والمشاعر المتراكمة، والكيف بمعنى النّوعية النّخبوية التّي تملك العلم بالشيء قبل العمل له، فصوابية العمل الذي نقوم به مقترنة بالعلم الذي قاد إليه، فواقع اليوم بحاجة إلى نخبة من شأنها إحداث تغير حقيقي، نخبة واعية تعمل للوطن أولاً، لا تدخل فيها شطحات مثقفي الأيدولوجيا الواحدة والفرد الواحد، ومثقفي طوائف الحق الإلهي والسلالية البائدة، فمن دون تلك النقطة الفاصلة لا تتكلل جهود الأمة ونضالها بالنجاح وتحقيق التغيير. 
       
طوال العقود الماضية حتى اليوم ظل نضال الأمة ونهجها نحو التّغيير رهن الحوادث الطارئة والجسيمة، التي تنخر في كرامة الشعوب يوما بعد يوم، تقزم حقوقها وتسقيها كؤوس الذلة والمهانة، سرعان ما ينبري ذلك الجرح فتعود الأمور إلى أسوء ما كانت عليه، إن مشروع النّهضة الحقيقية لا تصنعه الحوادث العابرة، ولا النّشوات والتشنّجات المصاحبة، ولا يصنعه البكاء على الأطلال وانتظار مارد السماء، ولا تصنعه الابتلاءات الكبيرة التّي يعولُ عليها البعض أن تحدث هزة في الضمائر.
           
إن ما يصنع التّغيير هو السير وفق منهجياتٍ وأبحاثٍ علمية مدروسة لا تقبل الارتجال، تشخص المشكلة وتطرح الفرضيات وتصيغ المقارنات، تنظرُ في تجارب الآخرين تقيّم الواقع وتُعِدُّ له الدراسات ومراكز الأبحاث، كل ذلك من شأنه أن ينتشل الأمة من اليأس ويرسم لها بارقة أمل، إن ما تستحقه تضحيات الشارع العربي اليوم هو صنع النّقطة الفاصلة، وكل ذلك لا يتأتى إلا بتأهيل كوكبة شبابية واعية، تعي الواقع وتخوض غمار السياسة، كوكبة همها العلم قبل العمل، الوطن والأمة قبل الحزب والأيدولوجيا، ذلك من شأنه صنع نقطة حرجة ترى الأمة من بعدها النور.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.