شعار قسم مدونات

نوستالجيا الفلسطيني

blogs - القدس
بعد حديث طويل عن الصراع الفلسطيني/"الإسرائيلي"، تستغرب صديقة بوذية من أصل هندي أنني سأعود وأسرتي إلى فلسطين بعد الانتهاء من الدراسة في ماليزيا، حقًا.. لا "سيثا" ولا غيرها في البلدان المستقرة يفهم معنى "الحنين إلى الوطن"، بل إن مفهوم "الوطن" خارج الوطن العربي عمومًا، وفلسطين خصوصًا، مفهوم لا يكاد يقارب مفهومنا، إنه الشيء الذي يعطيك ولا يأخذ منك، يحميك ولا تحميه، يبنيك ولا يهدمك، يعطيك حريتك ولا تموت أنت في البحث عن حريته، ينتظر أبناءك ليعيشوا فيه لا لتقدمهم قرابين على مسالخ الحرية، فماذا أعطتنا أوطاننا مذ ولدنا إلا الهم والألم والإرث الكفاحي وكرامة في ضمائرنا ونفوسنا، وعزة "مفترضة"، منتظرة في كتب التاريخ التي لا تزال تحت الطبع!

ولطالما ساءلت نفسي: ترى لو عشنا في بلد مستقر مستقل مطمئن آمن، أكان أحد سيشعر بـــ"الخطيئة" غداة الخروج منه، كأنّ آدم قد طرد لتوّه من الجنة!

بالتأكيد: لا، ولكن مثَلنا في فلسطين مثل من ترك أمه الجريحة الوحيدة تنزف، وذهب ليعيش في بيت مستقل مع زوجه وأولاده، ففي الوضع العادي، لا حرج في أن يهاجر المرء من بلده ويضرب في بلاد الله الواسعة لسبب أو دون سبب، ولكننا، الفلسطينيين، أصحاب جرح مفتوح، وضمير مأفون! حتى، والله، إني أكاد أشك أن شهداءنا في الجنة يحنون إلى بلادنا!

إن فلسطيننا ليست الأجمل، وإننا لنكابر إن قلنا بذلك، ولكنه الحب الذي لا يُفسَّر! الحب الممزوج بالشفقة، حب الطفل لأمه إذ بلغت عنده الكبر!

إنه سؤال مشروع: هل نحن "نكديّون" بطبعنا! كل شيء في الغربة يحيلني إلى موازيه الفلسطيني؛ حين أجلس على ضفة نهر تتلألأ فيه الأضواء الملونة في بوتراجايا، يحضر الغائبون، وتحضر كهرباء بلادي وأضواؤها المطفأة وأنوارها التي لا تعلق إلا على المشانق، حين ترى الطائرات فوقك تنقل المسافرين بكل سفور، تذكر أنها متوحشة في بلادك، وحين يطرب الأطفال لأصوات الألعاب النارية تذكر أنَّ صغارنا يموتون بالفسفور الأبيض، وحين ترى الجسور والمباني الشاهقة يحترق قلبك لأن وقوف هذه الأشياء في بلادنا محرم! أذكر أبيات راشد حسين رحمه الله:

وترى نجوم الليل مثل معسكرات اللاجئين
وكهيئة الغوث الحزينة يخطر القمر الحزين
بحولة من جبنة صفراء أو بعض الطحين

وأتمثل درويش يقول:
" في غربتي الصماءْ
ينتابني
شوقٌ عظيم جارفٌ إليكْ
ورغبةٌ في الحزنِ والبكاءْ.
ينتابني..
شوقُ العذابات التي تطرزُ الرسائلَ المعتقة..
بالوردِ..
والدموعِ..
والحِنَّاءْ…
شوقُ الخريفِ للتجلي في متاهات القمرْ
وشوقُ لحظةِ الفراق للولوج في مشاعر البشرْ
ولهفةُ القلوبِ إذ تستقبلُ الدماءْ
ينتابني
شوقٌ كشوقِ العاشق الصوفي للسماءْ"

ولطالما سمعنا في حياتنا من يقول "زبالة فلسطين أحسن من كل الدنيا"، لا نشفى نحن من "حب الوطن" والحنين إليه، كأنه مرض وراثي متأصل في جيناتنا، إذ لا يكاد الواحد فينا يصل معبر رفح حتى تفيض عيناه، ولكنه مرضٌ غير مُعدٍ وهذا من رحمة الله بعباده! فالناس في الخارج لا يكادون يفهمون ما نحن فيه، فضلًا عن أن يُصابوا به! نحن عندهم "مجانين" لا نُفسَّر.

إن فلسطيننا ليست الأجمل، وإننا لنكابر إن قلنا بذلك، ولكنه الحب الذي لا يُفسَّر! الحب الممزوج بالشفقة، حب الطفل لأمه إذ بلغت عنده الكبر! الطفل الذي يحمد الله أنه لا يزال يملك أمًّا تتعبه وتقسو عليه ولكنها لم تيتِّمه بعد ! أطال الله عمرك يا فلسطين ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.