شعار قسم مدونات

الثواني المرة قبل الغارة وما بعدها

blogs-ادلب

عبثا كنت أحاول تحويل السيارة عن وجهتها، لكن شيئا أقوى مني لم أدر ما هو منعني من تحريك المقود، ربما كان قدري، كانت المقاتلات الروسية قد خرقت الهدنة المتفق عليها، ونفذت عدة غارات على مدينة إدلب وكان باستطاعتي أن أرى من خلال زجاج سيارتي الأمامي سماء المدينة مليئة بالدخان يتصاعد على شكل أعمدة اتصلت بين الأرض والسماء القاتمة التي اعتاد السكان أن يأتيهم الموت منها.. قذائف وصواريخ وبراميل متفجرة.
 

كانت إدلب مركز المحافظة الواقعة شمال غربي البلاد على مقربة من الحدود التركية ، قد شهدت ازدهارا كبيرا تنفس الناس خلاله نسيم الحرية والعيش الهادئ بعيدا لأول مرة عن سطوة جيش النظام وصواريخه ، وذلك بعد توقيع اتفاق هدنة قضى بعدم استهداف مناطق المعارضة قرب قريتي الفوعة وكفريا اللتين يسيطر عليهما جيش النظام و تقطنهما أغلبية موالية له ، مقابل عدم استهداف القريتين من قبل المعارضة.

 

اعتادت المقاتلات أن ننتظر تجمع المسعفين لتستهدف المكان ذاته إمعانا في الإيذاء والقتل

(تناولت ذلك الصباح فطوري مع زوجتي هبة الله وطفلي مصطفى ومثل كل صباح ودعاني من شرفة المنزل وانطلقت بعدها إلى مدينة ادلب ولم أدر وقتها أن حياتنا ستتغير بشكل جذري).
 

في مدخل المدينة كانت السيارات تتوزع على حافتي الطريق وقد تداعى الناس لكي يشاهدوا أعمدة الدخان محاولين تلقف الأنباء عن نتائج الغارات ، وبهدوء قدت سيارتي بينهم وقد أحسست بأن عليّ واجب الدخول لأنقل الخبر لهم وللعالم كله لكنني لم أعلم بأنني سأكون جزءا من الخبر لا ناقلا له ،

على حاجزٍ لجيش الفتح في مدخل المدينة سألت المقاتلين عن مكان التنفيذ فقالوا: أحدها قرب مبنى الأمن العسكري، فاتجهت إلى المكان أتمتم في نفسي بما سوف أفعل.. أنتظر لأصحب زميلا مصورا أم أستطلع المكان أولا فأنا قريب منه.. أفكار مرتبكة لم أستطع تحويلها إلى خطة للعمل وكل ما في ذهني كان الوصول إلى المكان لأستطلع نتائج الغارة الأقرب ، وفي ذهني أيضا الخطر البالغ المترتب على توجهي للمكان بعد الغارة فورا ، إذ اعتادت المقاتلات أن ننتظر تجمع المسعفين لتستهدف المكان ذاته إمعانا بالرغبة بالإيذاء والقتل … قتل أي كان ، لكنني أقنعت نفسي بأن المقاتلة ابتعدت وبأن عليّ أداء المهمة دون الخوف من المقاتلات كما تريد هي أن تزرع في قلوبنا .
 

(المشهد من داخل دخان الغارة يختلف عن المشهد من خارجه فهو أشد إيلاما وتعذيبا)
 

وصلت فرع الأمن العسكري بات يفصلني عنه شارع ، "يبدو أن الغارة مرت بسلام الحمد لله" لا آثار لشيء مخيف فقط دمار وبعض الركام أغلق الشارع "عليّ تغيير وجهتي فالركام قد يؤذي عجلات السيارة" انحرفت يمينا لأمر من أمام كارلتون ادلب – وهو أكبر فندق في المدينة بدل المرور أمام فرع الأمن العسكري ، فكان المشهد الأول الذي ينذر بالكارثة ، سيدة تركض مذعورة تحاول الاحتماء بجدار سور الكارلتون فقلت في نفسي : لعلها سمعت شيئا ، ومرت ثانية أو أكثر بقليل "نعم هو صوت صاروخ قادم يبدو أنه قريب نعم قريب" لقد تشقق زجاج السيارة الأمامي وكان عليّ الاحتماء بعيدا عن الزجاج آه صوت الانفجار إنه قوي لم أعد أسمع شيئا فقد صرخت : "يالله" وفقدت القدرة على التنفس إذ يبدو أن الصاروخ كان من النوع الفراغي الذي يسحب الأوكسجين.
 

بجهد كبير حاولت التقاط أنفاسي مجددا عدت إلى مكاني خلف المقود لا أدرك شيئا ولا أحس بشيء، ما لذي يحصل وكأني أسبح في فضاء مظلم وحدي منفرد في عالم لي لوحدي ، ثانية اثنتين ، بدأ النور يتدفق مجددا ما زلت في مكاني لم أغادر إلى أيِّ عالم
 

نظرت إلى الأسفل فكان الدم ينطلق من ساقي اليسرى مثل نافورة لم أقوَ على النظر كثيرا فقد تمزق البنطال وتهتك اللحم سألت نفسي : مالذي حصل ؟ و أجبت "لقد أصبت الحمدلله جاءت في ساقي" استجمعت قواي عاودت النظر إلى الأسفل قلت لنفسي "يبدو أن ساقي ستبتر" و كببت وجهي على مقود السيارة لأتخيل مشهد ساق مبتورة مضمدة ، تلاه مشهد عكازين ، ثم مشهد طرف اصطناعي ، تماما كما نضع الصور في برنامج المونتاج ، رفعت رأسي قلت الحمد لله لكني بدأت أتألم "يارب لو يغمى على فأرتاح قليلا" لكني لم أفقد وعيي أبدا "يارب لو يصل المسعفون" وفعلا وصل أحدهم "فيك شي" مقاطعا أصوات العويل المزعج والصراخ يأتي من كل صوب جاء شاب ثان ، سحباني ليمدداني على الأرض.
 

كان السؤال الذي يأبى أن يفارق ذاكرتي منذ لحظة أصبت: كيف يشعر الأطفال الذين يصابون في الغارات على القرى والمدن السورية إذا كان تأثيرها على الكبار إلى هذا الحد؟ 

تذكرت عند ما كنا نضع الكاميرا من زاوية في الأسفل، كان المشهد واضحا ، بدأته من الأعلى دخان كثيف جدا في السماء ، والأفق معكر وأسطح الأبنية غير واضحة و في الطريق شظايا تناثرت على امتداد النظر ، أما الصوت الطبيعي فهو صراخ و عويل ونواح يأتي من كل الجهات حولي لتشكل الصورة والصوت تقريرا مصورا بعدسات عيوني … تقريرا مفزعا مروعا عشته ولم أشارك في إعداده أو أشاهده من خلف شاشة .
 

نقلت بعدها إلى مشفى ميداني مع تلك السيدة التي كنت قد رأيتها تركض قبل الغارة في سيارة إسعاف واحدة ، وقد أصيبت في يدها ، كنت أسأل الأطباء بإلحاح : هل ستبترون ساقي ؟ وكانوا يجيبون لا فهي بحال جيدة ، لكنني وبعد كل عمل جراحي سواء الذي أجريته في سوريا لوصل الشريان المقطوع أو الذي أجريته في تركيا لتثبيت العظام المفتتة بعد نقلي إليها ، كنت عندما أتغلب على المخدر و أقوى على رفع رأسي قليلا ، أنظر لأصابع قدمي اليسرى ، أراها مازالت موجودة فأحمد الله و أستسلم للمخدر مجددا .
 

بعيدا عن عذابات الإصابة وجراحاتها التي تحفر عميقا في الجسد والنفس والذاكرة ، ظللت أستذكر الثواني التي سبقت الغارة والتي تلتها ، "يالله ما أصعبها " إنها حقا مرة ، وكان السؤال الذي يأبى أن يفارق ذاكرتي منذ لحظة أصبت ، كيف يشعر الأطفال الذين يصابون في الغارات على القرى والمدن السورية إذا كان تأثيرها على الكبار إلى هذا الحد ؟ و أنا أعلم أن الغارات مازالت مستمرة وهي تترصد الأطفال و الكبار كل يوم ، ما أقذر هذا السلاح ، و أقذر منه من يستخدمه في مناطق المدنيين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.