شعار قسم مدونات

أردوغان يوظف الانقلاب لتنفيذ الجريمة الكبرى

blogs - bakany
شهدت تركيا محاولة انقلاب قادها ضباط من داخل المؤسسة العسكرية تكللت بالفشل في ليلتها الأولى، معيدة بذلك إلى الأذهان أحداثا مشابهة من الماضي التركي القريب وأصابع الاتهام، وفي اللحظات الأولى توجهت نحو المعارض فتح الله غولن العدو الأكبر لأردوغان، وفي محاولة غير ذات جدوى لاستغلال الحادث لتوجيه ضربة قاضية للمعارضة في بنسلفينيا الأميركية.

 

دعت الحكومة التركية السلطات الأميركية إلى تسليم غولن لمحاكمته أمام القضاء التركي الذي تؤكد الحكومة التركية على استقلاليته في وقت قررت فيه توقيف أكثر من 120 قاض في ظرف 24 ساعة فقط على مرور الحادث، ليتوسع الرقم فيما بعد ليشمل أزيد من 2700 من القضاة بتهمة الضلوع في المحاولة الانقلابية، ووصلت التوقيفات في حصيلة سابقة إلى حوالي 60 ألف موظف في قطاعات حكومية من عسكريين وشبه عسكريين ومدنيين، بما فيهم أزيد من 20 ألا من المُدرسين، فضلا عن 42 صحفيا من ضمنهم الصحفية المعروفة "ناظلي إيليجاك" التي كانت خلال سنوات من الداعمين لتجربة الحزب الحاكم.
 

تركيا بقيادة أردوغان أقحمت نفسها في معارك على عدة جبهات، مع تكثيف المواجهة المسلحة مع حزب العمال الكردستاني. كما أن الحكومة التركية لم تخف قلقها من تقدم القوات الكردية في شمال سوريا وذلك لقربها من حزب العمال، وتأثير ذلك لصالح إعلان منطقة حكم ذاتي، إذ تقول التقارير إن حزب العمال الكردستاني أعاد تشكيل قواته وهو يشعر بمزيد من القوة بعد المكاسب التي حققها الأكراد في سوريا وإعلان سيطرتهم على مناطق واسعة تمتد على مسافة 500 كيلومتر.
 

الكفاءات التي ضحى بها أردوغان بشكل جماعي دون دلائل تثبت ضلوعها في الانقلاب كان لها جزء كبير من الفضل في الازدهار الذي شهدته تركيا

وتأكد ضلوع نظام أردوغان في الحرب على بشار الأسد، والتآمر لقلب النظام السوري الدكتاتوري، إذ أن العشرات من الأدلة تشير إلى تواطؤ السلطات التركية في صناعة تنظيم "الدولة الإسلامية"، والتعامل مع هذا التنظيم المجَرّم دوليا، وليس ثمة دليل أقوى من الفيديو المصور بطائرة استطلاع، والذي نشرته إدارة بوتين على موقع "سبوتنيك" الحكومي، وظهرت فيه العشرات من شاحنات المحروقات تعبر نحو تركيا مع ظهور العلم التركي خفاقا على أحد المراكز الحدودية، وذلك على خلفية إسقاط الجيش التركي طائرة استطلاع روسية قرب الحدود السورية مع تركيا.
 

لا شك في أنه كان هنالك تعاطف كبير مع أردوغان في العالم العربي، إلا أن هذا التعاطف شرع يتضاءل مع توسع طموح السيد أردوغان مع بداية "الربيع العربي" في محاولته استرجاع أمجاد الماضي من خلال إقامة دولة أردوغانية ممتدة، وسعيه لتوسيع صلاحيات منصب الرئيس.
 

ومن خلال متابعة دقيقة، فإن أردوغان وبتجاوزاته المستمرة ومن ضمنها قمعه الحركات الاحتجاجية السلمية كما وقع في ميدان تقسيم، وخنقه حرية التعبير والعمل الصحفي، إلى درجة أن امتدت يده إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ثم تعامله بروح الانتقام مع محاولة الانقلاب العسكرية، والتدابير المنافية للديمقراطية التي اتخذتها حكومته في حق مئات من الأشخاص بين مدنيين وعسكريين بما فيها الخروقات التي سجلتها المنظمات الحقوقية أثناء الاعتقال الاحتياطي كالتعذيب وباقي ضروب المعاملة السيئة، ويكفي أن نعرف أن نحو ثلث ضباط الجيش تم الإطاحة بهم، إضافة إلى العدد الهائل من موظفي الدولة الذين أقصاهم من خدمة وطنهم.
 

 فهذه الكفاءات التي ضحى بها بشكل جماعي دون دلائل تثبت ضلوعها في الانقلاب ودون أن تتأكد أي علاقة لها بفتح الله غولن خارج ما يسمح به القانون، قد كان لها بدورها جزء كبير من الفضل في الازدهار الذي شهدته تركيا خلال سنوات في المجال الاقتصادي والاجتماعي، قبل أن يبدأ موسمه في الانحدار، ويأتي ذلك كحلقة ضمن مسار أردوغان نحو الانقلاب على الديمقراطية التي أوصلته إلى الحكم في اتجاه إنهاء وجود المعارضة وكل الخصوم داخل أجهزة الدولة وتدمير الجيش الذي يعتبر ثاني أقوى جيش في حلف الناتو. ويكفي أن نعيد ذكر رقم 138 وهو عدد النواب بالبرلمان الذين رُفعت عنهم الحصانة من بينهم 101 من حزب الشعوب الديمقراطية،

وعلى المستوى الاقتصادي، تسجل التقارير المختصة هروبا لرؤوس الأموال، وقد كشف تصريح وزير الجمارك والتجارة بولنت توفنكجي، أن محاولة الانقلاب كلفت البلاد خسائر تقدر بنحو 100 مليار دولار، أي ما يعادل 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي الذي يقدر بنحو 800 مليار دولار، إضافة إلى تراجع الطلب الخارجي على السلع وتراجع السياحة وفق ما نقلته صحيفة "حريت" عن نفس المصدر، كما أن قطاعات هامة كالسياحة والتجارة والإنتاج كانت قد سجلت قبل الانقلاب خسائر جد فادحة نتيجة الهجمات الإرهابية والعقوبات الروسية، كما أدى غلق الطريق نحو الأسواق الخليجية عبر سوريا إلى وقف حركة 80 ألف شاحنة تركية نحو الخليج.

وعسكريا، يعاني الجيش التركي ضغوطا شديدة وهو ما يؤكد طلبا سابقا لقيادته من الحكومة سحب قواتها من العراق، وتزيد التحديات أمام المؤسسة العسكرية يوما بعد يوم، فأردوغان خلق عداوات مع دول، حتى الأمس القريب كانت من الأصدقاء، وهو ما أضحى أمام عنجهية "السلطان" يجعل البلاد مفتوحة على عدة جبهات وإن لم يكن بشكل مباشر فإن معارك بالوكالة تتهدد الاستقرار التركي وهو ما تتخوف منه قيادة الجيش في الوقت الحالي.

 

الشعب التركي نزل في حشود كبيرة من مختلف المكونات السياسية والفكرية والاجتماعية، ليس دفاعا عن عرش أردوغان، وإنما حماية لعرش الديمقراطية

أما على المستوى الجيوستراتيجي، تتزايد المخاوف أمام العداء الذي تسبب فيه تدخل أدروغان في الشأن الخارجي خاصة في سوريا، وأمام فشل تنظيم "الدولة الإسلامية" في إقامة "خلافته" في العراق وفي سوريا خصوصا، بسبب صمود الجيش النظامي المدعوم من تحالف قوي، غيّر هذا التنظيم الإرهابي من إستراتيجيته ليجعلها أكثر تركيزا على أوروبا، وازدياد الخناق على هذا التنظيم في بلاد الشام سيدفع بعناصره وأعضائه إلى اجتياز الحدود التركية، مما يتهدد الاستقرار داخل تركيا، إضافة إلى القنبلة الموقوته التي تحتضنها تركيا وأقصد اللاجئين السوريين الذين توقعت مؤشرات سابقة أن يبلغ عددهم ثلاثة ملايين لاجئ، وجلهم يعيش ظروفا أقل ما يقال عنها إنها بئيسة.
 

أمام "الأنا" الأردوغانية التي تسير بالنظام نحو التفرد بالسلطة وإنهاء العمل السياسي بمفهومه الديمقراطي، فإن الشعب التركي نزل في حشود كبيرة من مختلف المكونات السياسية والفكرية والاجتماعية، ليس دفاعا عن عرش أردوغان، وإنما حماية لعرش الديمقراطية التي تبقى السبيل الوحيد لضمان الاستقرار وحماية رؤوس الأموال من الهروب وبالتالي انهيار الاقتصاد ومعدلات النمو، ثم تصدع بنيان الدولة ودخول السلطة في حرب حقيقية مع "خصوم" الداخل وانفجار الوضع الاجتماعي، وهو ما من شأنه إذا ما وقع أن يفتح الباب للتدخلات الخارجية للدفع بالاحتجاجات أو "الثورة" نحو الفوضى والخراب.

إن أردوغان يرتكب جريمة كبرى بحق تركيا، ولقد ظلت هذه الدولة تمثل نموذجا للدولة العصرية القوية اقتصاديا واجتماعيا وتجربة ديمقراطية ناشئة مميزة في المنطقة، وإن حماية هذه التجربة تتطلب تخلي السيد أردوغان عن تاج القداسة وأن يتنازل عن طموحه السلطوي غير المشروع لصالح طموح سياسي يحترم الدستور ويقدس حق الأتراك في استكمال مشروع دولتهم الديمقراطية، لأن ذلك وحده هو السبيل نحو ضمان الاستقرار والازدهار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.