شعار قسم مدونات

غزة ليست كغيرها!

لقطات من نزوح أطفال بيت لاهيا شمالي قطاع غزة
لقطات من نزوح أطفال بيت لاهيا شمالي قطاع غزة (مواقع التواصل الاجتماعي)

جلست لأكتب مقالا لكنني لم أعرف من أين أبدأ، فالجمل تزاحمت في رأسي كما تتزاحم جثامين الشهداء في غزة، كلما هممت بكتابة فكرة دفعتها عشرات الأفكار لتحل محلها، لست أعرف من أين تبدأ الجمل وأين تنتهي، فجميعها امتزجت ببعضها كما امتزجت أشلاء الشهداء في غزة.

ما يجري في غزة اليوم يحتاج للغة جديدة لم يعرفها البشر تتسع لمشهد ليس له سابق، فكيف تصف الكلمات طفل يسعف من تحت الردم وعلى ظهره حقيبته المدرسية، فيسأله المسعف لماذا تحملها على ظهرك يا بني ليجيب "يا (عمو) إني احتفظ بأشلاء أخي الصغير بداخلها"، بأي كتاب مدرسي ستروى قصتك أيها الطفل؟ ومن أي نوع من الأطفال أنت؟ أخبرني بالله عليك!

لغزة لغتها الخاصة ربما هذه اللغة التي أحتاج أن أتعلمها لكتابة هذا المقال لكن كيف فلغتهم لا تكتب بالكلمات، أي كلمات تشخص مشهد أب يصلي على أشلاء أبنائه وأي كلمات تصف خوف طفل يسأل إن كان سيعيش وهو مخضب بدمائه

وكيف نقص على أحفادنا قصة طفل يلقن أخاه الصغير الشهادتين بكل جلد وثبات عجز عنها الرجال، يهمسها الصغير فيقول له ارفع صوتك فإني لا أسمعك، وهل تحتاج البراءة تلقينها الشهادة يا بني؟ بأي مفردات نروى قصة منال السويركي التي انتظرت 15 عاما لترزق بتوائمها الأربعة لتدفن معهم تحت ركام منزلها وهم بعمر الندى، لكنها غزة فالسردية هنا مختلفة والصورة تحمل في طياتها ألف معنى ومعنى.

الحياة والموت في غزة مفردات لها مفاهيم مختلف لا نعرفها نحن من نعيش في ترف الحياة، فلغزة لغتها الخاصة ربما هذه اللغة التي أحتاج أن أتعلمها لكتابة هذا المقال لكن كيف فلغتهم لا تكتب بالكلمات، أي كلمات تشخص مشهد أب يصلي على أشلاء أبنائه وأي كلمات تصف خوف طفل يسأل إن كان سيعيش وهو مخضب بدمائه، وأخرى وهي مدفونة تحت أنقاض بيتها لا تبالي عن نفسها وتسأل عن شقيقاتها.

في غزة للخبز رائحة مختلفة، لكن ليس كرائحة خبز أمي. فخبز غزة ممزوج بالدم فبعد معركة طاحنة سقط فيها الشهداء تمكن نوح الشغنوبي فلسطيني يعمل في الدفاع المدني في شمال القطاع من الحصول على كيس طحين يزن 25 كيلو غرام، بالنسبة لنوح لا وصف لسعادته فأخيرا سيأكل من الخبز الأبيض الذي لم يأكل منه منذ 7 أشهر. غريبة هذه الحياة يبحث نوح عن رغيف خبز أبيض ونحن نلقيه جانبا لفقدان بعضا من الجرامات من محيط وسطنا لنغدو أكثر رشاقة وجمال.

أي نوع من البشر أنتم أيها الغزيون وأي البشر نحن؟ ساعدونا لنفهمكم لنكون أحياء مثلكم، علمونا كيف نكون بشرا مثلكم؟ نمر على الموت مر الكرام ونرمقه بعين مبتسمة ولسان حالكم يقول لا تقلق سأعود إليك قريبا، فالدور الآن دور أبي وأخي وأمي وأختي ومن تبقى منا نحن الأموات الأحياء، لكنني سأعود سريعا لن أدعك تنتظر طويلا. الطريق إلى الجنة مزدحما فوق غزة فقوافل الشهداء كثيرة منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.

ما أغربكم أيها الفلسطينيون، ما تنفكون تكتبون تاريخكم بطريقتكم، تريثوا قليلا فكتب التاريخ ما عادت تتسع لكم

اليوم طوفان غزة الصغيرة المكلومة التي هجرها العالم، جميع العالم أجتمع على شواطئها وفي سمائها لتبصق غزة في وجهه وتقول لهم هل تظنون أنني أنسى؟ هل تظنون أنني أركع؟ عذرا رابين فلم يبتلع البحر غزة كما تمنيت بل غزة من ابتلعتكم، قم من قبرك وأنظر كيف فاض الطوفان وأغرق مغتصباتكم وأسر جنودكم.

قم يا شارون فانسحابك منها عام 2005 عاد ليقض مضاجعكم عام 2023، وعداد الأشهر يمضي سريعا فها نحن نقترب من منتصف 2024 ولا بريق أمل لوقف نزيف غزة في القريب العاجل. لقد كبر الأطفال أيها الحمقى وكبرت معهم ثاراتهم، وما أغباك أيها العالم لم تقرأ عن غزة؟ ألم تسمع عن ثيوبالد ملك نافارا الصليبي الذي هزمته غزة عام 1239 م؟ والتتار وانكسار نابليون على أسوار عكا.

يبدو أن فلسطين بأسرها لها لغة خاصة بها، وإلا كيف يفهم هروب أربعة أسرى من أعتى سجون الاحتلال عبر نفق وكأنك تشاهد فيلم "الهروب الكبير" أو عجائب مخيم جنين، وما نراه اليوم في الضفة أو ما فعله الفلسطينيون في الأرضي المحتلة عام 2021 في معركة سيف القدس.

ما أغربكم أيها الفلسطينيون، ما تنفكون تكتبون تاريخكم بطريقتكم، تريثوا قليلا فكتب التاريخ ما عادت تتسع لكم. نعم إنها غزة وجنين وأم الفحم ونابلس واللد، إنها فلسطين بكل لغات الخلق، فبردا وسلام عليك يا فلسطين وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب يتقلبون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.