أحلام الظلمة – محمد مشبال - المغرب
أدب السجون

محمد مشبال.. تجربة الاعتقال والتعذيب

تستضيف الحلقة محمد الأمين مشبال الذي اعتقل بتهمة الانتماء لمنظمة سرية تهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية.

تجربة الاعتقال والتحقيق والتعذيب
– الأوضاع في السجن

 

 

تجربة الاعتقال والتحقيق والتعذيب

undefined

محمد الأمين مشبال- معتقل سياسي: كثيرا ما كنت داخل السجن أحلم بأنني غادرت السجن ويوقظني داخل الحلم صوت ويقول لي لا أنت تحلم، أنت في السجن وما بعد السجن كثيرا ما أحلم بأنني في السجن وبأنني مطارد من طرف الأجهزة الأمنية وبأنني أخضع للتعذيب وللتحقيق ولا أفهم لماذا لم أخرج من السجن وآخرون خرجوا هذه الكوابيس لا تنتهي.كنت أسير في الشمس الباردة عندما أمطرني حميد الدوكالي بوابل من الأسئلة كيف؟ ومتى؟ ولماذا؟ ثم مضيت بجسدي على طريق رمادي أو رصاصي اللون في قلب مدينة فاس، كنت أفكر في الغد أكثر مما يجب وقد حوّل ذلك حياتي إلى قلق مستمر، انزويت قليلا أمام جذع شجرة نخيل ممتدة أطرافها العليا إلى السماء وعندما هممت أن ألتفت خطوت خطوتين وسمعت وطء أقدام قريبة مني أحدهما طويل بدين حاد النظرات والآخر قصير أحمر الخدين قوى العضلات، أثاراني بخطواتهم المتثاقلة والتفاتاتهم العميقة إلى عيناي، حاولت أن أتجاهلهما لكن صوتا حادا تطلع إليّ متسائلا عن عنوان أحد الشوارع فأجبته بأني لا أعرفه بينما كنت مقتنعا بأنهما يريدان التثبت من ملامحي، حاولت أن أتابع سيري فإذا بأحدهما يمد يده بسرعة نحوي تراجعت خطوة وقاومت قليلا لكن الرجل الآخر كان قد وضع الأصفاد في معصمي وأحسست أنها بداية النهاية وأن الشمس المشعة توشك أن تغرب إلى الأبد وأن تهجر عيناي الحالمتين، حاولت أن أستدير بوجهي إلى الوراء لأتابع حميد وهو يجري هاربا من الجحيم لكن يد خشنة أرجعتني إلى الأمام ثم سمعت صوتا مشحونا بالاستفزاز والسخرية يقول لقد وقعت، كنت أطل من النافذة بعينين غارقتين تكسوهما أشباح الكآبة والهلع، اعتراني ذهول وشعور عارم بالخوف من المصير المجهول ومن التعذيب والطرقات مثقلة بالشمس والسيارات والبيوت والدكاكين والمقاهي والمارة، أما أنا فقد غمرت الظلمة أرجاء جسدي ودقات قلبي تتسارع وتخفق كالبركان، ظللت أتابع الطرقات والمقاهي بعيناي وأودعها بذهول الذي رافقني منذ أن وضع القيد في يدي، الذاكرة تحمل الأشياء الكثير من الاعتقال، فالاعتقال كان قد استغرق فترة زمنية طويلة، لقد امتد من شهر فبراير 1976 إلى غاية 19 نوفمبر 1986 أي ما يناهز 11 سنة وهذه المرحلة كانت مرحلة طويلة وفيها تقلبات كثيرة كما رويتها في الكتاب، بدأت بالاختطاف ومرحلة التحقيق والتعذيب. كانت محاكمة 1973 كانت فتحت.. استعملها اليسار الذي حُكِم ولا الرفاق آنذاك كمنبر لطرح مواقفهم فكانت محاكمة 1976.. 1977 تسير في اتجاه مسبق، رُسم لها خطوط التشدد وإن كان بالمقابل أكان توجه داخل معتقلين سياسيين آنذاك لتكون تشدد من طرف الآخر بإثارة قضية الصحراء المغربية وطرح من زاوية طرح آنذاك السيرفاتي مسألة الجمهورية الصحراوية وطرح قضية الصحراء في المحاكمة مما خلق ملابسات كثيرة، على أية حال السجن ثم المراجعة، التجربة، الصراعات ما بين رفاق ما بين الأمس وهو أمر ليس.. لم يكن أمرا سهلا لا من الناحية الفكرية أو من الناحية الإنسانية خصوصا بأن يجد الإنسان نفسه في وضعية التي طرحها الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين قال إن الجحيم هو الآخر، وقفت السيارة أمام بناية كبيرة عرفت أنها مخفر الشرطة، كانت جموع الناس كثيرة اختلط فيها الصغير بالكبير والرجل بالمرأة وكان القناصان يدفعاني بشدة حتى كدت أتعثر في حافة درج الرصيف، دخلنا بابا كبيرا ثم عبرنا ممرا ضيقا باتجاه أحد المكاتب، فتح سائق السيارة الباب ودفعني من كتفي حتى ارتطمت بالحائط الأيسر من الغرفة، أقعدني على كرسي من دون متكأ وبقيت متصلبا للحظات أتأمل لافتة صغيرة وُضعت على المكتب تحمل اسم تاشفين، لابد أنه اسم المحقق الذي سيشرف على التعذيب لكن مهما يكن فلابد أن أصمد وأراوغ وأفرغ من كلمة إلى كلمة حتى يمضي الوقت سريعا، ينبغي أن تكون كلمة لا منقوشة داخل كل خلية من جسمي المناضل، أحسست وأنا أنتظر المحقق بتوتر يسري في أوصالي وتساءلت في كل ثانية ماذا أفعل؟ عندما بلغت عامي السابع عشر بدأت نسمات سياسية طفيفة تطل على حياتي كان لأخي عبد المؤمن دور رئيسي في توجيهي وإيقاظ نوع من الوعي السياسي لديّ، جاءت سنة 1972 لتضعني في تيار حركة التلاميذ فقد شهدت تطوان مثل باقي المدن المغربية الأخرى اضطرابات ومظاهرات للاحتجاج على مشروع إصلاح البكالوريا والمطالبة بمنح الحق النقابي للتلاميذ، شاركت بدور التلاميذ في المظاهرات أو التجمعات الحماسية التي انعقدت بثانوية القاضي بن العربي، لفت انتباهي حين ذاك تدخلات تلميذ بقسم البكالوريا يدعى عبد الباري الطيار كان يوظف تعابير ماركسية ثورية في خطبه وفي خضم كل هذا لم نكن نعرف هدفنا بوضوح بل لم نكن نعرف ماذا نرغب في الوصول إليه، ما اسمك؟ أجبته بصوت خافت محمد الأمين مشبال، تابع حديثه بزهو وفخامة متعالية وقد ثبّت عينيه في عيني، مع مَن كنت تعمل في هذه السنوات؟ هززت رأسي وقلت لا أعلم، لكنه اندفع دفعة واحدة وتحول الهدوء في المكتب إلى عاصفة من الصدى المتفجر، صرخ في وجهي محتدا وهو يحدق إليّ متفرسا عندما أسألك أجب أو.. لمحت في نظراته تهديدا ووعيدا بالشر لكنه عاد إلى سخريته وهدوئه وأردف تحسب نفسك ذكيا سوف تتكلم، اعلم جيدا أنك ستتكلم كالآخرين أين تسكن؟ أجبته بنبرة مكتشفة هادئة عند خالتي.

والدة محمد الأمين مشبال: كان يدرس في مدينة العرائش قبل أن ننتقل إلى تطوان وهو في سن الثانية عشرة كنت أرسله ليدرس بالمدرسة بينما هو كان يمارس السياسة الفوضى لم أكن أعلم شيئا كان يصطحب بعض زملائه اثنان أو ثلاثة إلى المنزل وقت الظهيرة وعندما أسأله مَن هم؟ يقول لي إنهم زملاؤه في الفصل، كنت أصدقه، كنت أقدم لهم الحريرة المغربية أو القهوة أو الشاي، اجتاز امتحان الباكالوريا بنجاح وقررنا إرساله إلى مدينة فاس كي يكمل تعليمه وسافر بصحبة والده إلى فاس حيث تقيم أختي وأخي، عندما أخبرهم زوجي بأن الأمين سيكمل تعليمه في فاس، رحبا بالأمر وفي انتظار تدبير شقة له أقام مؤقتا عند خالته، ذات يوم اقتادته الشرطة إلى بيت خالته.. تخونني الذاكرة في كثير من التفاصيل.. كان يتصبب عرقا، طرقوا الباب بشدة وسألوا ابنة أختي أين غرفته؟ قالت هاهي، دخلوا الغرفة وفتشوا كل شبر فيها، كان يموت عطشا كان في الـ 18 من العمر فقط وطلب من ابنة خالته أن تحضر له ماء، جلبت له ابنة أختي نزهة كأسا من الماء لكنه لم يكد يشرب الجرعة الأولى حتى أزاح عنه أحد رجال الشرطة الكأس، قالت له ابنة أختي دعه يشبع قال كفاه وأخذ منه الكأس، لم يخبرني أحد بما جرى كتموا الأمر عني وأنا كنت هنا في تطوان.

"
التعذيب لا يمكن أن يُنسى لأنه بالنسبة لي  كان قاسيا وموجعا ومؤلما، بحيث يجعلك  حين تتأمل الزمن تجد الثانية من التعذيب أو الدقيقة ودون أدنى مبالغة تساوي سنة ضوئية
"

محمد الأمين مشبال: التعذيب لا يمكن أن يُنسى لأنه بالنسبة لي تعذيب كان قاسيا، يعني التعذيب لم يكن مجرد لم يقتصر فقط على الجانب لنقل الجانب التعذيبي الذي وصفته في الكتاب يعني الفلقة أو الطائرة والشيفون من أجل الاختناق يعني التعذيب الجسدي الذي كان قاسيا وموجعا ومؤلما والتعذيب يجعلك من بعدها حين تتأمل التعذيب تجد أن مفهوم الزمن يختلف ثانية من التعذيب أو دقيقة تحت التعذيب وبدون أدنى مبالغة تساوي سنة ضوئية. ما بعد التعذيب الجسدي هناك التعذيب النفسي، أنت تخرج وتستنشق الهواء وأن تتجول حلما بعيد المنال أن تعيش الحب بشكل طبيعي وعادي، مسألة مستحيلة، كل هذه الأشياء تؤدي إلى تعذيب نفسي لا يقل قساوة عن التعذيب الجسدي ويصبح الحلم ومع مرور السنين يصبح الحلم بمغادرة السجن وبالحورية يصبح شيئا شبه مستحيلا.

والدة محمد الأمين مشبال: مرت ستة أشهر دون أن نعرف مكانه أو حتى إن كان على قيد الحياة، والده كان رجلا عجوزا ومع ذلك ظل يبحث عنه ويربي الأمل في معرفة مكانه، أخوه الذي كان يعمل أستاذا هو أيضا بحث ولم يجد له أثرا إلى اليوم الذي ظهر فيه فجأة.. نسيت تفاصيل كثيرة لأن المدة كانت طويلة.. عندما ظهر قدم للمحاكمة أذكر أن المحكمة كانت مطوقة برجال الشرطة داخل وخارج المحكمة وعلى السلالم وكأن القضية كبيرة وكل ما في الأمر فتى في 18 من العمر، كان الولوج إلى المحكمة أمرا شاقا ومؤلما، كنت أطلب أن أرى وجهه وما أن يراني ويرى الدموع تنهمر من عيني حتى يشيح بوجهه عني ويختفي، كان رجال الشرطة هكذا أمامنا وهكذا المحامون ونحن هنا وهم هناك كان يراني فيشيح بوجهه فتشتعل النار في قلبي.

محمد الأمين مشبال: شرع الرئيس في النطق بالأحكام، سجن مؤبد لخمسة رفاق وبعض الآخر تراوحت أحكامهم ما بين ثلاثين وعشرين وعشر وخمس سنوات، سادت القاعة كلها لحظة ذهول مخيفة، أما أنا فقد سمرتني الصدمة في موضعي وشردتني، عشرون سنة إضافة إلى سنتين لإهانة الهيئة القضائية في بئر بارد مغلق تحده الأشواك، لم أعد أرى أمامي إلا النهاية المأساوية وانقلب الأمل المتبقي في ذهني إلى حزن ذابل مغمور، شعرت بثقل جسدي لأول مرة وتردد صوتا بداخلي جياش الأصداء وكنت وحدي أمضي في ذهول أتأمل الأشياء من حولي مكسور القلب والعينين وهاهي الوجوه تعاند الدموع المنجرفة وتعالت الكلمات الغربية الممتزجة.. الواقع أمامي شاحبا وصارت تطوان كالفردوس المفقود.

والدة محمد الأمين مشبال: عشرون عاما كانت صدمة قاسية بالنسبة لي تعرض زوجي لحادث وكسرت رجله على أثره كان عليّ أن أترك له طعامه جاهزا لأنه مريض بالسكر كنت أطلب من الناس اصطحابي إلى السجن كي أزوره الرجل مريض والابن مريض فلقد تكبد ابني حكما أكبر من سنه كنت امرأة عاجزة عن فعل أي شيء لم يكن بيدي ما أفعله، ما تركته لي أمي من مال وذهب بعد وفاتها كنت مستعدة لبذله لأجله لم أكن لأستخسر فيه أي شيء لو طلبوا هذه سأقدمها في سبيل أن يستعيد حريته الحمد لله كل شيء انقضى.

"
التهمة التي حوكمنا من أجلها كانت الانتماء لمنظمة سرية تُدعى إلى الأمام بهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية وذلك عن طريق العنف كإستراتيجية ثورية للتغيير
"

محمد الأمين مشبال: التهمة التي حوكمنا من أجلها هي كما ورد في محضر يعني قرار الإحالة هي كانت الانتماء لمنظمة سرية تُدعى إلى الأمام بهدف القضاء على النظام الملكي القائم وإقامة بديل عنه جمهورية شعبية ماركسية لينينية وذلك عن طريق العنف كاستراتيجية ثورية للتغيير، هذه هي التهمة التي من أجلها اعتقلنا وحوكمنا، كانت لنا تصورات وهي تصورات تستمد مشروعيتها من جهة الاحتقان السياسي اللي كان يعيش في المغرب آنذاك من حيث كان هناك صراع ما بين القوى المعارضة؛ اتحاد وطني، القوات الشعبية وحزب استقلال بدرجة أقل مع النظام وخروج المغرب من الفترة الأفقية هي التي كانت تعرف التشدد وقمع شديد وهدر للحريات العامة، إذاً كان هذا المناخ السياسي الداخلي وتشدد وبمقابل كان هناك مناخ عالمي كان المناخ العالمي يعزز هذا النموذج وهذا الطرح الاشتراكي أو الماركسي اللينيني كان يعززه ويعطيه كل الموضوعية من هنا انبثقت مجموعات صغيرة ماركسية لينينية صغيرة أساسا عمادها الطلبة ومثقفون والأساتذة وحاولت طرحت على نفسها أنها ستقوم بتغيير المجتمع، أنها ستقوم ببناء حزب يطلق عليه حزب العمال وستقود العمال والجيش من الفلاحين تحت راية حمراء نحو الثورة الشعبية.

[موجز الأنباء]

الأوضاع في السجن

محمد الأمين مشبال: بعد جئنا معتقل دارمولي، شريف خلعنا ملابسنا وارتدينا قميص وسروال كاكيين وأخذ كل منا رقمه وكان رقمي 25 ثم صففنا الحجاج صفا واحدا وأداروا وجوهنا إلى الحائط ومررنا ببطء والكرباج يهوي على رؤوسنا وظهورنا وأيدينا ننحني ونختبئ كل واحد منا في الآخر ويتمايل فيرتطم بالحائط ثم يعود لضربات ولسع السياط وُضع كل أربعة أو خمسة في زنزانة لم أرها لكن إحساسي بقتامة يبدو واضحا مرأى العين منعونا من الكلام منعا باتا شحب وجهي وصرت هزيل البنية خائر القوى أعانق ذكرياتي وأجول بخاطري في تطوان أتذكر أمي وأبي وكل العائلة التي ما ظننت يوما أني سأفارقها كل هذا الوقت، كان سجن القميطرة المركزي رهيبا وشامخا ساحة عارية متسعة وبناء ضخم ممتد ورق مرتصف متلاصق داخل البناية الضخمة يوجد ممر فسيح طويل يتوسط صفين من الزنازين خطوناه بهمومنا الثقيلة فارتج فيه صدى أحذيتنا وتسرب في الحائط ذهننا يتبع خطواتنا البطيئة.

مشارك أول: كان النشاط محدودا مظاهرات بين الفينة والأخرى منشورات لا تغني من جوع لأنها كانت تصاغ باللغة العربية وتوزع لكن هل كانت تصل إلى الناس؟ هل كانوا يقرؤونها ومع نسبة الأمية الموجودة في البلد الله أعلم وإذا قرؤوها ما مدى تأثيرها؟ مَن كان سيستفيد منها؟ إذا فقط رجال الشرطة لأنهم كانوا يأخذون المنشور ويبحثون عن مصدره، في عام 1974 بدأت الاعتقالات في طنجة على إثر توزيع منشور كان بعض الطلبة قد ذكروا اسمي لرجال الشرطة فجاؤوا إلى تطوان بحثا عني لم يكن لديهم من المعلومات عني غير الاسم وأنني طالب لذا اعتقلوا خمسة أو عشرة أشخاص يحملون الاسم نفسه من بينهم أولاد عمي وأصدقاء لهم الذين وجدوه في طريقهم اعتقلوه أما أنا فاستطعت الإفلات من قبضتهم بعد أن لذت بالفرار في 1974 في اتجاه الدار البيضاء عشت هناك حياة جديدة اسم جديد هيئة جديدة بطاقة، هوية جديدة، أهل الحي الذي كنت أسكنه كانوا يعتبروني أستاذا، قضيت عاما ونصف في فراغ مطلق، تصوروا أن شابا في العشرين من العمر يعيش فراغا مطلقا والسبب أن رفاقنا في التنظيم سامحهم الله مارسوا علينا نوعا من الكذب لأنني عندما تحولت إلى محترف ثوري تخليت عن حياتي الرسمية وعن أسرتي التي كانت في حاجة لي، تخليت عن مستقبلي واحترفت الثورة، ذهبت إلى الدار البيضاء على أساس أن المنظمة حسب ما كانت تدعيه في منشوراتها متجذرة في الطبقة العاملة وعولت إذاً على الاشتغال ضمن الطبقة العامة أو في المجال التلاميذي أو الطلابي لكني لم أجد إلا الفراغ القاتل، كنت أقضي ستة أيام في الأسبوع معتكفا في البيت أو أجوب في شوارع الدار البيضاء إلى أن أصبحت لدي صعوبات حتى في الحديث مع الناس لأنني لم أكن أخالطهم إلى أن بدأت الاعتقالات، يمكن أن أقول بأن عددا كبيرا من رفاقنا وهذا الأمر أثير في عدد من النقاشات الثنائية داخل السجن عاشوا لحظة اعتقالهم قد لا يفصحوا عن هذا يوما، هذا أمر يخصهم عاشوا لحظة اعتقالهم على قساوتها كلحظة خلاص، مصطلحات الآن عن حقوق الإنسان أمر ضروري وإيجابي ويجب أن تكون لكنها اليوم تحققت بفضل تطورات المجتمع المغربي برمته، الآن أصبح من الصعب أن تتخيل أن تقدم السلطة على اختطاف شخص ما وما وصلنا إليه حاليا هو نتيجة لوعي كل الأطراف بتجاوزاتها وأخطائها وإيجابياتها.

مشارك ثاني: عندما كنت في سيارة الاعتقال وجاءني رجال الأمن كنت وأنا ذاهب إلى السجن كنت أتصور بأن الشارع سينتفض، العالم كله سينتفض، غدا ستقع ثورة، العالم كله سينتفض معي وأنا كنت آنذاك في عمر ثماني عشر سنة داخل السجن وكنت في السيارة أمضي إلى الناس من قلب السيارة وأعتقد أن الناس سيتحركون والشارع التطواني سيتحرك سينادي بإطلاق سراح فلان وفلان وفلان، النظام ظلمنا ظلم كبير جدا، كيف يعقل ثلاث سنوات العمل السياسي تحكم على 12 سنة سجنا هذا هو الظلم الكبير اللي كنا حاسينه أنه ثلاث أعمال أولا السن مبكر يمكن يقولوا علينا يمارس العمل السياسي بشكل مبكر داخل قطاع تلاميذي محدود، إمكانياته محدودة على مستوى التغيير يحاكم 12 سنة سجنا، أنا أعتبر أن الخطأ الكبير الذي وقعت فيه منظمة الأمام أو الحركة الماركسية هو مسألة الصحراء، أعتقد أن الخطأ الكبير اللي سقطت فيه إحنا لحد هذا الوقت لم نكن واعيين به كل الوعي، أعتقد أن الخطأ الكبير لأنه هو الخطأ الاستراتيجي اللي بنيت به القاعدة الأساسية أنهم كانوا يعتقدوا بأنهم من الصحراء سيتم تغيير المغرب، هذا كان خطأ كبير وكبير جدا، كيف يعقل داخل وهذا الشيء اللي الحقيقة والتاريخ كيف يعقل أنه أكثر من 90% من المعتقل شباب عمرهم أكثرهم بين 18 وعشرين سنة حتى 21 سنة قائد من القادة الكبار يأتي المحكمة يقول عاشت الصحراء عاشت بوليساريو عاشت دوح، الحال اللي إحنا ما تصورناش إن داخل بالعكس كان سؤالنا إن هو ينقض الشباب ويدفع المحكمة حتى جاء لواء آخر ليمشوا في اتجاه اللي أراده لأنه كأن نحن نحاكم داخل المحكمة على مسألة الصحراء، بالعكس نحن لم نحاكم فقط على مسألة الصحراء بل نتحاكم على أفكارنا السياسية، على توجهنا، على الفكر الماركسي اللي آنذاك ولكن لم نحاكم فقط على مسألة الصحراء بل قادة جاؤوا لنا أو القائد أو أحد القضاة جاء قال المسألة كأنها مسألة الصحراء هي الموضوع الأساسي وتوثق الاتهام الأساسي لهذا يبين نقط الاتهام والخيانة الوطنية لدولة داخل المحكمة بشكل واضح واللي كان المحكمة تشتغل في هذا الاتجاه بتهمة الخيانة الوطنية.

محمد الأمين مشبال: الأيام الأولى من شهر أبريل 1977 تواصلت برسالة من ابنة أختي هدى أخبرتني فيها بوفاة عبد الحليم حافظ، خفق قلبي وأحسست بعيني تتسعان وأنا أتابع الكلمات بذهول ثبت وجهي في الحائط المقابل لي وكظمت ما تبقى في نفسي من الغبطة شعرت بالصدمة تكاد تأكلني، أدرت وجهي بيمنة ويسر وتمتمت كل ما هو جميل يسير نحو النهاية، مَن سيغني بعدك للحياة يا عندليب؟ وداعا يا ساحر الحياة والفن، وداعا يا مَن علمني كيف أحب. كانت القراءة وسيلة تخلصني من الملل وحلاً ينعش تفكيري لكن إدارة السجن منعتنا من قراءة الكتب ذات الطابع السياسي خصوصا الكتب التي تتجه الوجه الماركسية اللينينية، لذلك عمدنا إلى قراءة الروايات والكتب الأدبية والمجلة ذات الموضوعات المتنوعة في هذا الصيف وصلنا نبأ زيارة أنور السادات إلى إسرائيل، أحسست بمرارة تعتريني وسألت نفسي بامتعاض ما هو الثمن؟ لم نتفق مع مبادرة السادات، قد رأينا أن تسوية مصر لمشاكلها مع إسرائيل بمعزل عن سوريا والفلسطينيين سيضعف قدرة العرب على المواجهة. الشون جميلة بجبالها، ريح ريفية تطفح في كل ناحية من نواحيها، قمم عالية يتبعثر فوقها الثلج، هذا ما تراءى لي وأنا أطل من الطابق العلوي للسجن بعيني الساهمتين لم يكن سجن الشون مثل باقي السجون التي ضمتني من قبل، سجن صغير أشبه بمنزل في الأرياف نظيف وبارد لكنه دافئ بإحساس تراني وأنا أدخله مقيد اليدين، بلغ عددنا حوالي أربعين معتقلا وُزعنا في غرف ثلاث شاسعة المساحة، واصلنا إضرابنا عن الطعام في الشون رغم تشتيتنا المفاجئ وفي مساء يوم 17 من الإضراب فوجئنا بزيارة بن ذكري والفاكهاني وهما رفيقان من لجنة المفاوضات أخبرونا بأن وفدا برلمانيا اجتمع بالسرفاتي وطلب منه أن يتدخل ليقنع باقي الرفاق بتوقيف الإضراب عن الطعام لأن عواقبه الصحية ستكون وخيمة ولأنه لن يكون مجديا سياسيا، قَبِل السرفاتي العقد وكانت هذه المرة الوحيدة التي يتصرفوا فيها بحكمة وطلب من الوفد أن يجتمع بأعضاء لجنة المفاوضات وفعلا تمكن السرفاتي من إقناع أغلبية أعضاء لجنة المفاوضات موضحا لهم أن هذا الإضراب الجديد هو انتحار فقط، فقامت لجنة المفاوضات بإقناع الرفاق بضرورة توقيف الإضراب دون أن تعترف بخطأ تحليلها السياسي ومنطلقاتها لخوض غماره وبعد مناقشات صاخبة وافقت الأغلبية على قرار توقيف الإضراب أما الأقلية التي كنت من ضمنها فقد عارضت هذا القرار ورأت أن لجنة المفاوضات لم تأت بتحليل أو معطيات جديدة تستدعيه. في شهر أبريل من السنة نفسها جاء قرار وزارة العدل بإرجاعنا إلى السجن المركزي بالقميطرة أشعر بالغبطة عندما علمت بعودتنا إلى القميطرة كانت ألفتي بالشون غمرت إحساسي الحزين وبعثت فيه قليلا من الهدوء والسكينة كنت أرى فيها صور من تطوان وفي كل لحظة من لحظات الزمن المر أحس بنبضها العليل في عروقي الدفينة، سقط الليل فخيم الصمت القاتل على حي أليب ولجت زنزانتي تمددت فوق الفراش وتأملت بياض السقف شيئا أقوى مني كان يدفعني إلى التفكير والشرود. رحت أعيد شريط أحداث اليوم المرير الذي ودعت فيه عشرات الأصدقاء ضاقت بي الجدران وببياضها الذي مقتني بنظرات فاجرة فعبث بالسواد ورمى بي إلى المجهول شعرت بقطرات دموع تنزلق ببطء على خدي تتبعها أخرى حائرة تلمع تحت أشعة المصباح الشاحب ثم اجتاحتني نوبة بكاء حادة لم أعرفها من قبل رغم كل الظروف القاسية التي مررت بها منذ اليوم الأول لاعتقالي، بكيت ذات يوم على حظي السيئ في عفو سنة 1980 وها أنا ذا أبكي ثانية، كنت واعيا أن قطار الحرية لا يصفر إلا مرة واحدة كل أربع أو خمس سنوات ومَن فاته فعليه أن ينتظر ابتسم المدير في هدوء وتمتم بكلمات مضيئة هنيئا لكم لقد صدر في حقكم العفو الملكي، نظرت إلى رفاقي من حولي في ذهول، فتحت فمي شاردا وحاولت أن أقول شيئا لكني صمت،امتلكتني رغبة في أمور عديدة طالما انتظرت هذا اليوم بدم الشوق والصمت الجريح وانبعث من أعماقي صوت هائج صرخ في وجهي ماذا تنتظر؟ إذاً عانق أصدقاءك وامرح كالمجنون مثلما حلمت دائما فالحرية أجمل ما في هذه الحياة ودعت غرفتي وخطوت بثقلي في الممر يرافقني صدى حذائي اختلطت في ذهني صورة تطوان والعائلة والبحر وأنا أتمعن المكان بعين حرة فغمر نفسي إحساس حزين عبرت السيارة باب السجن الكبير ومازالت أنظر إلى بنائه المرتفع ابتعدت السيارة قليلا وكان السجن مازال يبدو كبيرا لكنه بدأ يصغر ثم يغيب حتى اختفى عن الأنظار وأنا في السجن كنت أحلم بالحرية وأن يبدأ الإنسان صفحة جديدة وأن يلحق بالزمن الهارب.