رواية دلشاد.. ضحك كالبكاء!

(الجزيرة)

حين فرغتُ من قراءة رواية "دلشاد" أحدث أعمال العُمانية بشرى خلفان بعد روايتها الأولى "الباغ" كان يُلحّ على ذهني سؤال حول كيفية أن يأتي كاتب قضى معظم تجربته منشغلاً بكتابة القصة القصيرة مع كل ما تتطلبه من اقتصاد وتخفّف، ثم يكون بهذا التدفق والرحابة حين ينتقل لكتابة الرواية،.

لكنّ هذا لم يكن الميزة الوحيدة للعمل الصادر هذا العام عن منشورات "تكوين" الكويتية في نحو 500 صفحة، إذ أستطيع القول باطمئنان بالغ إننا إزاء عمل أصيل من بدايته وحتى آخر صفحة فيه حتى لا أقول نهايته، وذلك لأنّنا سنعرف أنّ كل هذا الترحال الطويل لم يكن إلا جانباً من الحكاية التي ستمتد عبر جزء ثان، كما أوضحت الروائية في ذيل الصفحة الأخيرة.

يضحك دلشاد حين يفرح وحين يحزن وحين يضطرب وحين يحتار وحين يحتال عليه الزبائن فلا يمنحونه أجر عتالته في السوق، والأهم حين يقرصه الجوع الذي يلازمه كظلّه ولا يكاد يعرف وقتاً معتبراً مرّ من دونه.

تحكي خلفان ظاهرياً عن دلشاد، الطفل الذي يكبر مبتور النسب وتتقاذفه الحياة الصعبة في دروب كثيرة، لكنّ دلشاد في العمق لم يكن سوى فاتحة الكلام لحكاية طويلة تستعرض تاريخ مسقط وحاراتها وناسها البلوش والزدجال واللوغان والعرب وهم يتقلّبون بين جوع وشبع ".. مسقط، تكرهها وتحبها، ثم لا تجد بدّاً من الفرار منها. لكني فعلتها، وأنا الآن هنا، على سطح هذا المركب، وفي هذا البحر العظيم، مغموراً بالأزرق الذي لا أرى غيره". لكنّ هذا التاريخ لم يأت نافراً عن جسد الرواية منفّرا عن الانسجام معها، فعقب هضمه استطاعت الروائية إذابته في طبقات النص، فجاء متسقاً سلسلاً في قلب الحكاية وفي نسيجها الداخلي.

تُمارس ألاعيبها السردية بإتقان وهي تمرّر الحكي من شخصية إلى أخرى وكأننا أمام سباق للتتابع تقطع الشخصية فيه مسافة مقدّرة، تحمل الحكاية على عاتقها وتُنمّيها قبل أن تُسلّم عصا الحكي إلى شخصية أخرى، ليتضح آخر المطاف ألا أبطال لهذا العمل وأنّ البطولة بأسرها تذهب صوب الحكاية فقط، حكاية الجوع والشبع، وما الشخصيات مهما تعملقت واستحوذتْ على المساحة، إلا أدوات لتحقيق هذا الغرض. لهذا ربما، سيخرج كل قارئ ببطله الخاص، سيميل إلى إحدى شخصيات العمل بغض النظر عن حجم حضورها فيراها الأجدر بالاستحواذ على الاهتمام والتعلّق بالذاكرة.

يضحك دلشاد حين يفرح وحين يحزن وحين يضطرب وحين يحتار وحين يحتال عليه الزبائن فلا يمنحونه أجر عتالته في السوق، والأهم حين يقرصه الجوع الذي يلازمه كظلّه ولا يكاد يعرف وقتاً معتبراً مرّ من دونه. لا يجد تفسيرا لحالة الضحك تلك فيتأقلم معها. ثم تُصاب زوجته نورجيهان بعدوى الضحك قبل أن تُغادر وهي تضع مولودتها مريم التي ما إن تكبر حتى تستولي على حصة والدها من الجوع ومن الضحك أيضاً.

ويبدو لافتا كيف نحتت الكاتبة شخصياتها، فكانت أمام دلشاد المبتور النسب، تمنح كل شخصية اسماً ثلاثياً ومرجعاً سكنياً وأحيانا مسقط رأس، وكأنها بذلك تتجاوز الملامح الكافية لرسم الشخصيات إلى الملامح التامة. إنها الوفرة والرحابة التي ابتدرتُ بها المقال، وهو جهد كبير نتج عنه الإيهام الكبير بصدقية الشخصيات، حتى خطر لي مرة وأنا في منتصف القراءة أن أبحث عن بعض تلك الأسماء الثلاثية في محرك البحث غوغل لأرى ما إذا كانوا أشخاصاً من لحم ودم. فقد بدا كل شيء حقيقيا، بدا وكأن خلفان تسرد سيرة متحققة لأناس بعينهم، وأنّ ما قامت به لم يكن سوى نقل كل ما جرى من مكان ما إلى هذه الصفحات. لكنها البراعة حتما ولا شيء آخر.

وقد أجادتْ الروائية وهي تُؤثث لكل تلك الحكايات المتداخلة فبدا المكان نابضا بالحياة، إذ تضجّ الصفحات بمدينة مسقط، بروائحها وأصوات أناسها وأمواج بحرها وهي تتكسّر على الصخور الصلدة. تحضر جغرافيا المدينة عامرة وهي تتوزع بين ساحل ممتد ومرتفعات عصية. كما تحضر اللهجة المحلية دون إرباك ليتضح مدى الوعي بأدوات الكتابة، وهو ما أدى في النتيجة لخلق عمل هو ابن بيئته تماماً ووفياً لضروراتها، فلم تفلت جملة أو سلوك يخدش حقيقة المكان والزمان المناسبين لحكاية تجري منتصف القرن الماضي.

وقد ساعد في ذلك إحاطة خلفان بالموروث العُماني ذلك الوقت، فحضرت طقوس الزفاف والولادة والمآتم والبيع في الأسواق، وصيد الأسماك على المراكب، وأمسيات الأنس والتلهّي بعيداً عن العيون المتلصصة. ولعلّ اللافت حقاً أنّ الروائية أغدقت كل تلك المهارة دون تباهٍ، فقد ظلّت طوال النص وفيّة للحكاية ومنقادة لها ومعها، دون خروج استعراضي مفتعل على سبيل اللغة أو المشاهد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.