فلسطينيو 48.. نعم الكف تُلاطم المخرز

غزة تحت نيران القصف الإسرائيلي
(الجزيرة)

مع الأحداث الأخيرة في القدس والأقصى وانتشار الاعتداءات التي تقوم بها شرطة الاحتلال الإسرائيلي وقواته الأمنية وعصابات يهودية (نعم عصابات)؛ بدأ الاهتمام الإعلامي بفلسطيني 48 يزداد، وهم الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم وقراهم مع نكبة فلسطين عام 48 وتشريد معظم أفراد الشعب الفلسطيني، ليبقى نحو 155 ألف فلسطيني داخل الخط الأخضر، وقد أصبحوا اليوم نحو 17% من سكان الكيان الذي حل على أرضهم ويسمى "إسرائيل".

سنوات الثمانينيات اتسمت بحالة من البناء السياسي والتنظيمي لفلسطيني الداخل ومحاولة العمل على الخروج من واقعهم المهمش وبناء أُطر المجتمع وكياناته مع وجود الاختلافات المرتبطة بالتنوع الأيديولوجي بالعالم العربي والإسلامي

تعاملت السلطات الإسرائيلية بعين الريبة مع الفلسطينيين في الداخل، فاتجهت لسياسات عدائية ابتدأت بفرض الحكم العسكري عليهم والقيام بمجازر ضدهم، كما حدث في مجزرة كفر قاسم عام 1956، ومصادرة أراضيهم، واعتقال كل من يتحدث بلسان حال الفلسطيني صاحب الأرض ويسعى لتثبيت حقه فيها.

فترة التوجس من هذا الكيان وسياساته شابت علاقة الفلسطينيين في الداخل مع السلطات الإسرائيلية، مع انقطاع مجمل الشعب الفلسطيني عن العالم العربي والإسلامي، وهم الذين يشكلون الحاضنة الهوياتية الأساسية لهؤلاء الناس، ليتبدل الحال مع نكسة عام 67 واحتلال الضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء، وليجعل هذا الواقع الجديد فلسطيني 48 منكشفين على عمقهم الفلسطيني والعربي والإسلامي، وليزداد الوعي ويتجذّر هذا الانتماء، فيما السياسة الرسمية استمرت بنهج أمني مع فلسطيني الداخل، ولكن من دون الحكم العسكري المباشر مع استمرار سياسة مصادرة الأراضي ليكون يوم الأرض عام 76 يوما آخر تتجلى فيه مجابهة السياسات الإسرائيلية.

سنوات الثمانينيات اتسمت بحالة من البناء السياسي والتنظيمي لفلسطيني الداخل ومحاولة العمل على الخروج من واقعهم المهمش وبناء أُطر المجتمع وكياناته مع وجود الاختلافات المرتبطة بالتنوع الأيديولوجي بالعالم العربي والإسلامي والذي انعكس على الفلسطينيين في الداخل. كذلك ارتبط البناء والرؤية السياسية بالامتداد الفلسطيني، ولكنه كان مدركا لطبيعة وجود الفلسطينيين في الداخل تحت السلطة الإسرائيلية وضمن مفهوم المواطنة (وهي مواطنة ليست ديمقراطية بل إثنية)، ليس بمعناها المفاهيمي العميق؛ بل بمعناها الإجرائي الضيق المرتبط بحيازتهم لبطاقة الهوية الإسرائيلية وانصياعهم للقانون الإسرائيلي الذي يتمثل أي عصيان له بردّ بيد من حديد وتنكيل يمكن أن يصل حد تهجير جديد.

فيما اتسمت التسعينيات بحالة الإحباط والانكفاء على الذات مع اتفاقية أوسلو وحصر القضية الفلسطينية بالوضع السياسي للضفة الغربية وغزة، فكان شعور فلسطيني 48 أنهم تُركوا إلى مصيرهم ضمن وجودهم تحت المؤسسة الإسرائيلية. ومع هذا الواقع بدأ البعض بالتحرك بشكل أوسع ضمن انغماسهم تحت المواطنة الإسرائيلية مع توجيه أسئلة متحدية لها، ولكنها ضمن نقاش "داخلي" مع المجتمع والمؤسسة في إسرائيل ومرتكز على مسألة الفلسطينيين في الداخل. وقد ترافق هذا مع تصاعد مفهوم الحاجة لبناء المجتمع داخليا عند البعض وإعادة موضعة أنفسهم ضمن القضية الفلسطينية، فكان دور منهجي للعمل في الأقصى والقدس، لإعادة رسم مركزية القدس والأقصى في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي على يد هؤلاء الفلسطينيين في الداخل مع إخوانهم المقدسيين، وهذا يُحسب لفلسطيني الداخل. وقد برز ذلك مع انتفاضة الأقصى عام 2000 ومشاركة فلسطيني الداخل فيها بشكل فعّال واستشهاد 13 شابا بالداخل الفلسطيني، ورباطهم في الأقصى وإعماره ومشاركتهم بمجمل النضال الفلسطيني ضد السياسات الاحتلالية.

وكذلك برزت إعادة موضعة فلسطيني الداخل لأنفسهم من خلال أحداث الربيع العربي وتفاعلهم معها، وعقدهم الآمال على تبدل حال العالم العربي ضمن حالة انتماء لهذه الدائرة، وأمل أن ينسحب التغيير المنشود في العالم العربي على واقع القضية الفلسطينية. كل ذلك ترافق مع زيادة عملهم في القدس والأقصى وبناء بعض مؤسساتهم، لتأتي حالة الترهل العربي والتطبيع وواقع المؤسسة الإسرائيلية، وتهميش القضية الفلسطينية بعوامل ذاتية وخارجية، وازدياد علاقة الفلسطينيين في الداخل مع المجتمع الإسرائيلي لظروف موضوعية وطبيعية مرتبطة بسوق العمل وبتطور المجتمع الطبيعي وحاجة أبنائه للعمل والخدمات وزيادة تعلمه، وكل هذا ترافق مع محاولة العمل على سياسة احتواء ودمج للفلسطينيين في الداخل على صعيد الأفراد، ولكن ضمن رؤية إسرائيلية متنكرة من القضية الفلسطينية، وفي نفس الوقت بقيت ضمن عقلية أمنية واستيطانية صهيونية لا يمكن أن تعطي أي شيء للعربي، فكانت سياسات التضييق على القرى والمدن العربية ومنع التوسع العمراني فيها وهدم البيوت وترك أوضاع القرى والمدن العربية مزريةً ناقصةَ الخدمات والموارد، وفي الوقت ذاته عمل الاحتلال على معاقبة تيارات الفسلطينيين السياسية، كوضع الحركة الإسلامية -بقيادة الشيخ رائد صلاح- خارج القانون الإسرائيلي وملاحقة أصوات الفلسطينيين في الداخل المتشبثين بهويتهم وانتمائهم والتضييق عليهم.

لنصل إلى واقع السنوات الأخيرة التي بدأت تخرج خلالها بعض الأصوات التي باتت ترى وجوب "الاندماج الفعال" في السياسة و"المواطنة" الإسرائيلية ضمن ما هي قائمة عليه، وبتشديد على الأمور الخدمية المرتبطة بتحسين ظروف حياة الفلسطينيين في الداخل ومعيشتهم، والمنقطعة خطابا (وأحيانا) ممارسةً مع هويتهم الفلسطينية، وطبعا اقتصرت هذه الأصوات على البعض، ولكنها علت في الانتخابات الأخيرة.

لتأتي الأحداث الأخيرة وتعيد وضع الأمور في سياقها الحقيقي، بأن الفلسطينيين في الداخل جزء أصيل لا يتجزأ من القضية الفلسطينية، وأن سياسات التدجين لن تنال منهم، أو من غالبيتهم، ولتكون 3 رسائل يرسلها الفلسطينيون في الداخل لأكثر من جهة؛ أولا للقيادات الفلسطينية بأنهم -أي الفلسطينيين في الداخل- يجب أن يتم اعتبارهم في بناء الرؤية وبرنامج العمل الفلسطيني وأن يكونوا جزءا من صناعة القرار الفلسطيني مع الأخذ بالاعتبار خصوصيتهم. ثانيا رسالة للعالم العربي والإسلامي بأن يتبنى قضيتهم وأن ينكشف عليهم ويدرك أنهم جزء أصيل من هذه الأمة، بل وهم حامٍ مركزي للهوية والإرث الفلسطيني بأرضه ومقدساته. وثالثا رسالة للمجتمع الإسرائيلي أن فلسطيني الداخل ومع امتلاكهم لبطاقة الهوية الإسرائيلية فإنهم يبقون مرتبطون بهويتهم وانتمائهم، وأن أي تعامل مع الفلسطينيين في الداخل يجب أن يكون مرتبطا بحل شامل للقضية الفلسطينية، ومحاولات التدجين وإدارة الصراع معهم لن تجدي نفعا ما دام أصل الصراع لم يُحل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.