نموذج الدولة المستقبلية في 2040: تتسم بعدم اليقين وجمهور أكثر طلبا وقدرة

(غيتي إيميجز)

التغيير وليس الاستمرارية هو الديناميكية المهيمنة على كيفية تطور العالم خلال العقدين القادمين، لذا فإن المرونة والتكيف لمواجهة عدم اليقين بشأن المستقبل من العوامل الرئيسية في الصعود والسقوط النسبي للحكم الديمقراطي والسلطوي على حد سواء.

المرونة والتكيف يؤثران في أداء الحكومات -أيا كانت طبيعتها- بغية مواجهة "جمهور أكثر طلبا وأكثر قدرة"، فمن المرجح أن تواجه العلاقات بين الحكومات ومجتمعاتها توترات مستمرة بسبب عدم التوافق المتزايد بين ما يتوقعه الجمهور وما تقدمه الحكومات، وهذه الفجوة الآخذة في الاتساع تنذر بمزيد من التقلبات السياسية والاحتجاجات، وتهديد وتراجع للديمقراطية ،وفجوة في الحوكمة تقوم أطراف أخرى -بخلاف الحكومات والدول- بملئها، فتتوسع بذلك المصادر البديلة للحكم ويكون هناك تطلع دائم لحوكمة تكيفية، وحكم محلي قد يتناقض في سياساته مع المستوى الوطني، ولكن لديه قدرة على الاستجابة الفاعلة لاحتياجات مجتمعه، وفي ظل هذه السياقات لا يتوقع أن نكون إزاء أيديولوجيات جديدة ولكن مناهج مختلفة في الحكم إن توفرت الشروط اللازمة لإنتاجها.

هذه هي أبرز سمات الدولة والحكم خلال العقدين المقبلين كما انتهى إليها تقرير الاتجاهات والسيناريوهات الإستراتيجية العالمية ٢٠٤٠ الذي أصدره مجتمع الاستخبارات الأميركي في مارس/آذار الماضي.

الجمهور.. تطلعات متزايدة وعجز حكومي

الملمح العام للمستقبل -كما يشرحه التقرير- هو عدم التوافق بين الطلبات العامة والقدرات الحكومية، فعلى مدى العقدين المقبلين من المرجح أن تواجه العلاقات بين الدول ومجتمعاتها في كل منطقة توترات مستمرة بسبب عدم التوافق المتزايد بين ما يحتاجه الجمهور أو يتوقعه وما يمكن للحكومات أن تقدمه.

ففي العديد من البلدان من المرجح أن يواجه السكان الذين زادت توقعاتهم بسبب التنمية البشرية والازدهار الاقتصادي السابق ضغوطا واضطرابات أكبر بسبب تباطؤ النمو، وقلة فرص العمل غير المؤكدة والتي أعادت التكنولوجيا والتغيرات الديمغرافية صياغتها، وستكون هذه الشعوب أيضا مجهزة بشكل أفضل للدفاع عن مصالحها بعد عقود من التحسينات المطردة في التعليم والوصول إلى تقنيات الاتصال، بالإضافة إلى التماسك الأكبر للمجموعات ذات التفكير المتماثل.

ورغم أن الثقة في المؤسسات الحكومية منخفضة بين عامة الناس فمن المرجح أن يستمروا في النظر إلى الدول باعتبارها مسؤولة -في نهاية المطاف- عن مواجهة تحدياتهم، ومطالبة حكوماتهم بتقديم المزيد من الحلول.

تآكل قدرات الدول وعجزها عن تلبية تطلعات شعوبها تتأتى من العوامل الهيكلية الأربعة التي رصدها التقرير، وهي التغير السكاني، والأوضاع الاقتصادية، وتغيرات المناخ، وأخيرا التطورات التكنولوجية، ففي حين أن هذه الاتجاهات الديمغرافية والبيئية والاقتصادية والتكنولوجية هي التي تمهد الطريق للمستقبل فإن قصة الـ20 عاما القادمة ستتم كتابتها بشكل أساسي من خلال الاختيارات التي يتم اتخاذها في المجتمع والدولة والمستويات الدولية.

ستتعرض الحكومات لضغوط شديدة لمواكبة وتيرة التغيير التكنولوجي وتنفيذ السياسات التي تسخر الفوائد وتقل المخاطر والاضطرابات، كما أن التقدم التكنولوجي سيمكن الأفراد والجهات الفاعلة غير الحكومية من تحدي دور الدولة بطرق جديدة

ولكن كيف ستتفاعل المقومات الأربعة مع الديناميكيات الناشئة في المجتمع والدولة والنظام الدولي؟

هنا يمكن التقاط بعض الظواهر:

  • إن البلدان التي تشهد شيخوخة سكانية وتلك التي فيها شباب متزايد كبلادنا ستواجه كل منها مجموعة فريدة من التحديات المرتبطة بتلك الديمغرافيا.
  • من المرجح أن تزيد الهجرة، وتبرز معها قضايا الهوية التي تقسم المجتمعات في البلدان المستقبلة، وقد تغذي الصراعات العرقية.
  • إن التوسع الحضري السريع -الذي يحدث غالبا في أفريقيا وآسيا- سيتحدى الحكومات لتوفير البنية التحتية الكافية والأمن والموارد لهذه المدن النامية.
  • ستؤدي الاستجابة لتغير المناخ والتدهور البيئي إلى إجهاد الحكومات في كل منطقة، وسيكون التأثير حادا بشكل خاص في أفريقيا وآسيا ومنطقتنا، حيث تكون الحكومات ضعيفة أو هشة.
  • من المرجح أن يؤدي تباطؤ النمو إلى إجهاد موارد الدولة وقدرتها على تقديم الخدمات، خاصة أن الحكومات مثقلة بالفعل بالديون على نحو غير مسبوق.
  • تباطؤ النمو الذي يصاحبه عدم المساواة المتزايدة والمستمرة داخل العديد من الدول، إلى جانب الفساد سيهدد ثقة الناس في الحكومات، والثقة في بعضهم البعض.
  • التغير التكنولوجي: ستتعرض الحكومات لضغوط شديدة لمواكبة وتيرة التغيير التكنولوجي وتنفيذ السياسات التي تسخر الفوائد وتقلل المخاطر والاضطرابات، كما أن التقدم التكنولوجي سيمكن الأفراد والجهات الفاعلة غير الحكومية من تحدي دور الدولة بطرق جديدة.

الخلاصة التي ينتهي إليها التقرير هي أنه في مواجهة هذه التحديات أثبتت الأنظمة والنماذج القائمة للحكم أنها غير كافية لتلبية توقعات السكان، والنتيجة هي عدم توازن متزايد بين المطالب العامة وبين قدرة الحكومات على توفير الفرص الاقتصادية والأمن، وهذا التشاؤم العام ينتشر عبر حكومات اليمين واليسار والوسط، والدول الديمقراطية والاستبدادية والإدارات الشعبوية والتكنوقراطية.

حالة الربيع العربي.. دورات احتجاجات

يلتقط التقرير مأزق الربيع العربي ويعممه على مناطق أخرى ليصبح حالة عالمية، فقد كشف الربيع العربي قبل عقد عن أوجه قصور خطيرة في الأنظمة السياسية السائدة، ولكنه في نفس الوقت لم يستطع أن يفرز عقدا اجتماعيا جديدا بين الدولة والمجتمع، وعلى غرار المنطقة يمكن أن تتجه مناطق أخرى من العالم.

ومن المرجح أن تظل العديد من الدول عالقة في اختلال توازن غير مستقر يكون فيها السكان غير راضين عن النظام الحالي ولكنهم غير قادرين على التوصل إلى توافق في الآراء بشأن المسار المستقبلي.

يلحظ التقرير تصاعد الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم خلال العقد الماضي، مما يعكس عدم الرضا العام بشأن مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك عدم المساواة والقمع السياسي والفساد وتغير المناخ، وحتى لو حسنت الدول الخدمات والرفاهية بشكل إجمالي فقد يتم توزيع هذه المكاسب والفرص بشكل غير متساو، مما يؤجج الخلافات في المجتمعات التي تبدو أكثر ازدهارا.

ومن المرجح في السنوات القادمة -وفق التقرير- أن يتوسع هذا التناقض بين قدرات الحكومات وتوقعات الجمهور، مما يؤدي إلى مزيد من التقلبات السياسية والاستقطاب والشعبوية وموجات الاحتجاج، مع زيادة في التطرف السياسي، والعنف، والصراع الداخلي، أو حتى انهيار الدولة.

لكن المستقبل السياسي ستحكمه الاختلافات في قدرة الدولة، والأيديولوجيا، والتاريخ السابق للتعبئة السياسية، كيف ومتى يتحولان إلى سخط عام وتقلبات سياسية؟

ومن المرجح أن تظل العديد من الدول عالقة في اختلال توازن غير مستقر يكون فيها السكان غير راضين عن النظام الحالي ولكنهم غير قادرين على التوصل إلى توافق في الآراء بشأن المسار المستقبلي.

الاستقطاب والشعبوية

يتوقع التقرير أن يظل الاستقطاب على أسس عرقية ودينية وأيديولوجية قويا، حيث يدفع القادة السياسيون والجماعات المنظمة جيدا مجموعة واسعة من الأهداف والنهج العريضة التي تتقاطع مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية والحوكمة والهوية والدولية، ففي بعض البلدان من المرجح أن يؤدي هذا الاستقطاب إلى زيادة وتعزيز الخلل السياسي والجمود، ويزيد مخاطر عدم الاستقرار لأنه بمجرد تأسيس الاستقطاب يصعب عكسه لبناء التوافق.

كما أن عدم الرضا العام الذي برز في العقود الماضية عن السياسة السائدة لفشلها في معالجة المظالم الاقتصادية والاجتماعية أدى إلى ارتفاع عالمي في الشعبوية، ومن المتوقع زيادتها العقدين القادمين.

العنف السياسي وانهيار الدولة

خلال الـ20 سنة المقبلة من المرجح أن تؤدي التقلبات المتزايدة إلى انهيار النظام السياسي واندلاع العنف السياسي في العديد من البلدان، ولا سيما في العالم النامي، فاعتبارا من عام 2020 عاش 1.8 مليار شخص -أو 23% من سكان العالم- في سياقات هشة مع ضعف الحوكمة والأمن والظروف الاجتماعية والبيئية والاقتصادية السيئة.

ووفقا لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن هذا الرقم متوقع أن يصل بحلول ٢٠٣٠ إلى 2.2 مليار أو 26% من سكان العالم، وتتركز هذه الدول غالبا في أفريقيا جنوب الصحراء، تليها منطقتنا وآسيا وأميركا اللاتينية.

وستواجه هذه المناطق أيضا مجموعة متزايدة من الظروف التي تزيد الهشاشة، بما في ذلك تغير المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، وزيادة عدد الشباب، مع تزايد عدد السكان (في أفريقيا)، والتوسع الحضري السريع، مما يؤدي إلى تفاقم هشاشة الدولة.

ديمقراطية تحت الضغط وسلطوية هشة

يخلق هذا المناخ السياسي المتقلب نقاط ضعف لجميع أنواع الحكومات، من الديمقراطيات الليبرالية الراسخة إلى الأنظمة الاستبدادية المغلقة، ويصبح معيار الشرعية مستمدا من قدرة الحكومات على تسخير الفرص الجديدة، والتكيف مع الضغوط المتزايدة، وإدارة التفتت الاجتماعي المتصاعد، وتوفير الأمن والازدهار الاقتصادي لشعوبها.

وتشير التحديات التي تواجهها الحكومات إلى وجود خطر كبير يتمثل في استمرار الاتجاه المستمر لتآكل الحكم الديمقراطي خلال العقد المقبل على الأقل وربما لفترة أطول، وتقود العديد من القوى الداخلية والخارجية هذا التآكل الديمقراطي، ويقف وراءه مزيج من العوامل، بما في ذلك ضعف قدرة الدولة، وسيادة القانون الهشة، والتقاليد الضعيفة في التسامح مع المعارضة، وعدم المساواة العالية، والفساد، ودور قوي للجيوش في السياسة.

وعلى الصعيد الخارجي، تعمل الصين وروسيا والجهات الفاعلة الأخرى بطرق مختلفة على تقويض الديمقراطيات ودعم الأنظمة غير الليبرالية.

وعلى المدى الطويل سيعتمد تقدم الديمقراطية أو تراجعها جزئيا على توازن القوى النسبي بين القوى الكبرى، والمنافسة الجيوسياسية، بما في ذلك الجهود للتأثير أو دعم النتائج السياسية في البلدان الأخرى، والنجاح النسبي في تحقيق الاقتصادي وتوفير السلع العامة، ومدى التنافس الأيديولوجي بين النموذج الديمقراطي الغربي والنموذجين الصيني والروسي، وسيشكل هذا التنافس الاتجاهات الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.

فجوة الحوكمة

من المتوقع أن يقدم مزيد من الفاعلين مجموعة أوسع من الخدمات، فمع تزايد الاحتياجات والتوقعات العامة من المرجح أن يكون هناك تحول متزايد نحو نهج تكيفي للحكم يشمل مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة خارج مؤسسات الدولة -التي تقدم الرفاهية والأمن- والجهات الفاعلة غير الحكومية، بما في ذلك شركات القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية وجماعات المجتمع المدني والمنظمات الدينية والشبكات المتمردة، بل والإجرامية.

ومن المحتمل أن تمتد هذه الأدوار إلى نطاق أوسع من الفاعلين والوظائف بسبب مجموعة من العوامل، بما في ذلك فشل الدول في توفير الحوكمة الكافية، وزيادة الموارد المتاحة للقطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية والأفراد بسبب التكنولوجيا، والتعقيد المتزايد، وزيادة تحديات السياسة العامة التي تتطلب العديد من أصحاب المصلحة للتصدي لها.

إن توفير الحوكمة خارج مؤسسات الدولة لا يشكل بالضرورة تهديدا للحكومات المركزية، ولا يقلل من الجودة الشاملة للحوكمة التي تقدم للناس، ولكن النظم التسلطية عادة ما ترتاب في أي أنشطة تقوم بها مؤسسات المجتمع بعيدا أو مستقلة عنها، كما يعتمد ذلك على أنماط التفاعل بين الطرفين وعلاقة كل منهما بالخارج، بالإضافة إلى صيغ التمويل.

دولة المستقبل تواجه بيئة تتسم بعدم اليقين، وهذا يتطلب منها مرونة كبيرة تستطيع بها الاستجابة لتحديات لا يمكن تحديد ملامحها بدقة ولكن يمكن رسم اتجاهاتها الأساسية.

ستعتمد الأدوار والعلاقات بين الجهات الحكومية وغير الحكومية على قدرتها النسبية وتغلغلها ومواءمتها مع توقعات السكان، ويلاحظ خلال جائحة "كوفيد-19" ظهور العديد من الأمثلة على الحوكمة التكيفية التي جمعت بين الحكومات والقطاع الخاص والميديا الاجتماعية وشركات التكنولوجيا الكبيرة ومؤسسات البحث والمنظمات الدولية والحكومات المحلية، ومن المتوقع أن يؤدي التوافر المتزايد للبيانات حول جميع جوانب حياة الناس إلى جانب تقنية الذكاء الاصطناعي "إيه آي" (AI) لتحليلها، كل هذا يجعل الحكومات أكثر مرونة في توجيه وتوفير الخدمات والأمن، وبمجرد إنشائها من المرجح أن تنتشر الحوكمة المبتكرة حول العالم.

الحكومات المحلية هي أيضا من المرجح أن تصبح ذات أهمية متزايدة لقدرتها على تقديم الحل لمشاكل مجتمعاتها، وتتمتع الحكومات المحلية بشكل عام بميزة القرب من مشاكل ناخبيها، والمرونة في تخصيص الاستجابات، وتكون أيضا أقل حزبية.

ومع نمو عدد السكان في المناطق الحضرية وتحولها لمراكز للنشاط الاقتصادي والتكنولوجيا والابتكار فإن من المرجح أن تكتسب الحكومات المحلية نفوذا متزايدا في مواجهة الحكومات الوطنية، في حين أن الدور المتوسع للإدارة المحلية وحوكمة المدن قد يقوض تماسك السياسات عندما تتباين الإستراتيجيات المحلية والوطنية لحل المشكلات.

لا أيديولوجيات جديدة

من المتوقع -وفق التقرير- أن نكون إزاء عدد من التوليفات أو مزيج من الأنظمة على عدة محاور، من الحكم المركزي إلى الحكم المحلي، ومن دور الدولة القوي إلى الدور القوي غير الحكومي، ومن الديمقراطي إلى الاستبدادي، ومن العلماني إلى الديني، أو من قومي إلى دولي.

تاريخيا، حدثت التحولات الفكرية الكبرى عبر المناطق في لحظات الأزمات الكارثية كما هو الحال في أعقاب حرب كبرى أو انهيار اقتصادي أو غزو خارجي، فالناس يكونون أكثر استعدادا لتبني تغييرات منهجية جريئة لمعالجة المشاكل الشاملة، ومع ذلك فإن ظهور أيديولوجية جديدة أمر نادر الحدوث، قد تخلق ضغوط أخرى مثل جائحة أو كارثة بيئية كبرى -والتي تنطوي على أوجه قصور في الإدارة- ظروفا تهيئ لنماذج جديدة أو بديلة تكتسب قوة دفع في حالة حدوث خلل وظيفي واسع النطاق ومستدام.

يتطلب تحويل السخط إلى شيء جديد مزيجا من القيادة الملهمة والموحدة مع الأفكار أو الأيديولوجيا المقنعة لبناء تحالفات سياسية وكسب المجتمع، وهذا ما ستجيب عنه السنوات الـ20 القادمة.

دولة المستقبل تواجه بيئة تتسم بعدم اليقين، وهذا يتطلب منها مرونة كبيرة تستطيع بها الاستجابة لتحديات لا يمكن تحديد ملامحها بدقة ولكن يمكن رسم اتجاهاتها الأساسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.