نظرات وعبرات | صناعة العدو وصناعة الصديق (١)

(شترستوك)

في الوقت الذي كانت بعض الدول العربية مشغولة فيه بصناعة عدو جديد، بعد نجاح الانقلاب العسكري على الرئيس الأسبق محمد مرسي في يونيو/حزيران 2013م، كانت تجري وبهدوء شديد عملية أخرى لتفكيك عدو آخر وإعادة صناعته من جديد كصديق، أما العدو الذي تمت صناعته فكان "الإخوان المسلمين"، وأما العدو الذي تم تفكيكه وتحويله إلى صديق، فهو الكيان الصهيوني، العدو الأزلي للأمة العربية والإسلامية ما دام محتلًا لدولة فلسطين. فكيف حدث هذا؟ ولماذا؟ وهل كانت هناك علاقة بين العمليتين؟ وهل ستحقق هذه الصناعة أهدافها في النهاية؟

 

بدأت عملية صناعة العدو بالتزامن مع مرحلة تهيئة الظروف للانقلاب العسكري في مصر، لتحويل جماعة الإخوان المسلمين، من جماعة وطنية تمارس حقها السياسي الدستوري، إلى منظمة إرهابية مطاردة محليًا وإقليميًا ودوليًا، والأكثر تهديدًا لأمن المنطقة العربية وزعزعة لاستقرارها.

 

لأسباب كثيرة تحرص الإمبراطوريات والدول والكيانات المختلفة على اتخاذ عدو لها، وإذا لم يكن هذا العدو موجودًا فإنها تعمل على إيجاده، وقد يكون العدو خارجيًا أو داخليًا، وقد يكون دولة مجاورة أو غير مجاورة، وقد يكون العدو دينًا أو مذهبًا أو فكرة أو قيمة أو سلوكًا، وقد يكون مخدِّرًا أو مرضًا، كما قد يكون حقيقيًا أو مصنوعًا أو وهميًا.

صناعة العدو

بعد انهيار الحركتين القومية العربية والشيوعية، تصدّرت جماعة الإخوان المسلمين المشهد السياسي على غيرها من القوى السياسية، في كثير من الدول العربية التي كانت تسمح لها بالنشاط الدعوي والسياسي، كالأردن ومصر والكويت والمغرب والجزائر والسودان واليمن، وبعد نجاح الانقلاب العسكري بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي في مصر، كان أمام رئيس الانقلاب تحديات داخلية وخارجية عدة، فعلى الصعيد الداخلي، كانت الديمقراطية لا تزال في سنتها الأولى، وكان الشعب ما زال يعيش أجواء شعارات ثورة يناير 2011م، ومن بينها "الشعب والجيش إيد (يد) واحدة"، وكانت الدولة تعاني كثيرا من الأزمات الاقتصادية والتنموية، بسبب التركة المنهارة التي تسلمتها من نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، فضلا عن أن جماعة الإخوان المسلمين كان لها في مصر كثير من الإنجازات العلمية والاجتماعية، وقد أظهرت ثورة يناير 2011م حجم الحضور الذي يتمتع به الإخوان المسلمون والحشد البشري الذي قاموا به، الأمر الذي قد يؤدي إلى مواجهة دموية يذهب ضحيتها المئات أو الآلاف.

وأما خارجيًا فكان العالم مبهورا بنجاح الشعب في إحداث هذا التغيير السلمي للسلطة، ومشاهدة الشعب المصري يقيم نظامه الديمقراطي بنفسه أول مرة في تاريخه، ومن المفترض أن تساند الدول الغربية هذه الديمقراطية الوليدة وتدافع عنها، فضلًا عن أن جماعة الإخوان المسلمين لها خارج مصر امتدادات تنظيمية في معظم دول العالم، ولها حضور سياسي ومجتمعي ومدني لا يستهان به، خاصة في ظل الأجواء التي كانت سائدة وقتئذ في أعقاب ما يعرف بـ"الربيع العربي".

مراحل الصناعة

وكان لا بد لرئيس الانقلاب من خطة تساعده على مواجهة هذه التحديات، تعينه في ذلك الأطراف الداخلية والخارجية الحريصة على إخراج الإخوان المسلمين من المشهد السياسي في مصر على وجه الخصوص، وفي غيرها من الدول بوجه عام، فبدأت عملية صناعة العدو بالتزامن مع مرحلة تهيئة الظروف للانقلاب، لتحويل جماعة الإخوان المسلمين، من جماعة وطنية تمارس حقها السياسي الدستوري، إلى منظمة إرهابية مطاردة محليًا وإقليميًا ودوليًا. وقد مرّت هذه الصناعة بمراحل متدرجة عدة، نذكر من بينها:

الشيطنة: مثل تصيد الأخطاء، والترويج للإخفاق والتقصير في خدمة الشعب، ونشر معلومات وبيانات وتقارير كاذبة خلافًا لما هي عليه.

التشكيك: في الانتماء الوطني والولاء لمصر، والدخول في علاقات مشبوهة، وفي صدق الالتزام الديني، وترويج الإشاعات المسيئة إلى الجماعة ومنتسبيها.

التجريم: بصورة تدريجية، كاتهامهم بترويع المواطنين، ثم ارتكاب أعمال عنف وجرائم يعاقب عليها القانون، ثم حيازة أسلحة غير مرخصة، ثم ارتكاب جرائم قتل.

التخوين: باتهامهم بالخيانة العليا والعمالة لجهات خارجية، والتآمر على الدولة وتهديد الاستقرار والأمن.

دعم الإرهاب: باتهامهم بالتواصل مع تنظيمات إرهابية محظورة، وقيامهم بأنشطة إرهابية.

التضخيم: تضخيم صورة الإخوان المسلمين بعدّهم الخطر الأكبر الذي يهدد استقرار الدولة وأمنها، ويتسبب في جميع أزماتها ومشكلاتها، وبالقضاء عليه يتم القضاء على هذه المهددات والأزمات والمشكلات.

التدويل: بتوسيع دائرة الاستعداء عليهم، عن طريق قيام دول عربية أخرى باتخاذ الموقف نفسه منهم، وإصدار بيانات متشابهة بعدّهم جماعة إرهابية ومصادرة مؤسساتهم وممتلكاتهم كافة، وسنّ تشريعات تجرّم كل من ينتمي إليهم أو يتعاون معهم بأي شكل من الأشكال، ثم مطالبة المجتمع الدولي بتأييد الخطوة، وتصنيف الإخوان المسلمين منظمة إرهابية.

وقد سخر الانقلاب العسكري في مصر، والدول المساندة له كل الطاقات المنضوية تحتهم والملتفّة حولهم، لشنّ حملات متواصلة -بمناسبة ومن دون مناسبة- على الإخوان المسلمين، ومن هذه الطاقات: الوزراء والوكلاء وعلماء الشريعة والإعلاميون والفنانون والأكاديميون والخبراء والمستشارون ومديرو المنظمات والهيئات، وغيرهم ممن يدور في فلك النظام. بل بلغ الأمر حد عدّ المشاركة في هذه الحملات واجبًا وطنيًا لا ينبغي التخلف عنه، وكل من نأى بنفسه عن ذلك أقصي عن البساط الأحمر، ومنعت عنه كل المنابر وقنوات الاتصال.

ليس هذا فحسب، فقد بلغ الأمر مداه، بالتحذير من الإخوان المسلمين في مناهج التعليم، والتعميم على خطباء المنابر بالتحذير منهم والتعريف بخطرهم على المجتمع، وإقامة ورش وندوات للشباب وكوادر المجتمع، للتعريف بالإخوان المسلمين وأساليبهم وخطورتهم على الدولة والمجتمع والأفراد، والتحذير منهم ومن فكرهم ومن الاتصال بهم أو التواصل معهم لأي سبب من الأسباب، هذا عدا عن فصل جميع الخطباء والأساتذة والمدرسين لمجرد شبهة العلاقة بالإخوان المسلمين، باعتبارهم -حسب ما يجري صناعته- العدو الأكبر الذي يهدد استقرار الدولة وأمنها.

ووُضعت هذه الأعمال على رأس الأولويات في الدولة، ورُسمت الخطط وسخّرت الموارد المالية واستثمرت الإمكانات اللازمة لضمان نجاحها، وهذا يعني نجاح النظام والدول الداعمة له، في صناعة العدو على النحو الذي يحقق لهم أهدافهم من صناعته.

أهداف صناعة العدو

  • بالنظر إلى التحديات الداخلية والخارجية التي رافقت الانقلاب العسكري في مصر، فقد لجأ النظام الجديد وحلفاؤه إلى تحويل الإخوان المسلمين إلى عدو إرهابي إقليمي -بل دولي-، يهدد استقرار دول المنطقة وأمنها، وأنه لا بد من تضافر الجهود للقضاء على هذا العدو، وذلك بقصد تحقيق جملة من الأهداف، على رأسها:
  • إيجاد مسوّغ محلي وإقليمي ودولي لإزاحة الإخوان المسلمين والقضاء عليهم، وما سيترتب على ذلك من انتهاكات وتجاوزات تتعارض مع القانون الدولي، ويُتغاضى عنها إذا كانت ضمن الحرب على الإرهاب.
  • إقناع الشعب بأن النظام جاء ليخلصهم من العدو الحقيقي الذي يريد أن يزيد حياتهم بؤسًا، ويجلب لهم المصائب والتخلف، ويزعزع استقرارهم، ويزرع بينهم التطرف والإرهاب.
  • زيادة تأييد الشعب للنظام الذي سيخلصهم من الخوف والقلق الدائمين بسبب وجود هذا العدو الخطر.
  • إيجاد شماعة لتعليق إخفاق النظام عليها، مهما كان نوع هذا الإخفاق وأسبابه والجهات التي تقف وراءه، فهي دائما بسبب هذا العدو.
  • قبول الشعب بالتضحيات التي يقدمها، والمعاناة التي يعانيها في المجالات كافة، بذريعة أن الدولة تمر بمرحلة حساسة، وتحارب عدوًا شرسًا.
  • تصديق الشعب ما يبثه له النظام من معلومات وتقارير عن مشروعاته وإنجازاته وانتصاراته على العدو وقرب القضاء عليه.
  • تمكين النظام من التعبئة المستمرة للرأي العام في مواجهة العدو، وتقديم ما تحتاج إليه هذه المواجهة من بذل وإمكانات وتضحيات، وتأييد كل ما يقوم به النظام من انتهاكات بحق هذا العدو، وكل من له أي صلة به.
  • صرف الرأي العام عن إخفاقات النظام وأخطائه في إدارة الحكم، وتقصيره في حق الشعب، وصرفه عن تجاوزاته السياسية والعسكرية والمالية والتشريعية والدستورية.
  • تسويغ جميع ما يقوم به النظام من تغييرات تشريعية واجتماعية وثقافية وفكرية.

 

ومع الأسف الشديد فقد مضى على هذه الصناعة أكثر من 8 سنوات دون توقف، وكان من نتائجها زجّ عدد من دول المنطقة في أتون صراعات أهلية دامية راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والجرحى، وملايين المشردين، في ليبيا واليمن وسوريا، وما زال شبحها يخيم فوق دول أخرى نسأل الله تعالى أن يسلمها منه. (يتبع..)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.