حروب الاتكالية المتبادلة

BEIJING, CHINA - NOVEMBER 9: U.S. President Donald Trump and China's President Xi Jinping hold bilateral meetings at the Great Hall of the People on November 9, 2017 in Beijing, China. Trump is on a 10-day trip to Asia. (Photo by Thomas Peter-Pool/Getty Images)

في العلاقات الشخصية، لا تنتهي حالة الاتكالية المتبادلة إلى خير أبدا. وبالحكم من خلال الحرب التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، يتبين لنا أن الأمر نفسه ينطبق على العلاقات الاقتصادية.

رغم أنني نشرت كتابا في عام 2014 حول العلاقات الاقتصادية القائمة على الاتكالية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين، فأنا أول من يقر بأنه من قبيل المبالغة أن نعمم نظريات علم النفس البشري لتقييم سلوك الاقتصادات الوطنية. لكن أوجه التشابه مذهلة، والتشخيص أكثر إقناعا، حيث يغوص أكبر اقتصادين في العالَم في مستنقع بالغ الخطورة.

في أبسط مصطلحاتها، تحدث الاتكالية المتبادلة عند أحد طرفي النقيض في ديناميكيات العلاقات، عندما يستخلص شريكان من بعضهما بعضا أكثر مما يستخلص كل منهما من قوته الداخلية. وهذه ليست حالة مستقرة. إذ تتعمق حالة الاتكالية المتبادلة عندما تميل ردة فعل الشريك إلى النمو في الأهمية وتتضاءل الثقة في الذات بشكل مضطرد نتيجة لهذا.

وتصبح العلاقة تفاعلية ومشحونة للغاية، مع تصاعد التوترات. وعلى نحو ثابت لا يتغير، يتجاوز أحد الشريكين حدا ما، ويسعى إلى مصدر رزق جديد. وهذا من شأنه أن يجعل الشريك الآخر يشعر بالمهانة، ويغرق في حالة من الإنكار واللوم، وفي نهاية المطاف تنشأ لديه رغبة ملحة في الانتقام برد عنيف.

كانت الحجة لصالح الاتكالية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين مقنعة لسنوات عديدة. فعلى شفا الانهيار في أواخر سبعينيات القرن العشرين، في أعقاب التشنجات التراكمية لقفزة ماو العظيمة إلى الأمام وثورته الثقافية، سرعان ما توجهت الصين إلى الولايات المتحدة طلبا للدعم الخارجي لإستراتيجية "الإصلاح والانفتاح" التي أقرها دنغ شياو بينغ.

هل ينتهي الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين إلى حل سلمي أو طلاق مؤلم؟ الواقع أن الدروس من السلوك البشري ربما تحمل الإجابة. فبدلا من الرد على اللوم، والازدراء، وانعدام الثقة، يتعين على كل من الدولتين أن تركز على إعادة بناء قوتها الاقتصادية من الداخل

من ناحية أخرى، كانت الولايات المتحدة، في قبضة الركود التضخمي في أواخر السبعينيات، حريصة على البحث عن حلول جديدة للنمو؛ وكانت الواردات الصينية المنخفضة التكلفة بمثابة الترياق للمستهلكين الأميركيين من محدودي الدخل.

كما بدأت الولايات المتحدة تقترض بحرية من الخزان الضخم من المدخرات الصينية الفائضة، وهو حل مناسب للدولة صاحبة أكبر عجز في الادخار في العالَم. ثم ازدهرت هذه الاتكالية المتبادلة، التي ولدت من علاقة بريئة، لتتحول إلى زواج سعيد مريح في الظاهر.

من المؤسف أنها لم تكن علاقة حب. فقد ساعد الانحياز العميق والاستياء -ما أطلِق عليه وصف قرن المذلة والهوان في الصين في أعقاب حروب الأفيون في القرن التاسع عشر وعجز أميركا عن الخروج من جلدها لتقييم التهديد الإيديولوجي الذي تفرضه دولة اشتراكية مثل الصين- في إدامة حالة انعدام الثقة التي اختمرت لفترة طويلة والتي مهدت الساحة للصراع الحالي. وكما قد تتنبأ الباثولوجيا البشرية لحالة الاتكالية المتبادلة، فقد حدث انحراف عن الطريق في نهاية المطاف.

كانت الصين أول طرف يتبنى التغيير -فالتزمت بإعادة التوازن الاقتصادي عن طريق تحويل نموذج النمو من الطلب الخارجي إلى الطلب الداخلي. ومن الصادرات والاستثمار إلى الاستهلاك الخاص. وكان تقدم الصين مختلطا، ولكن لم يعد هناك أي شك في الفصل الختامي، الذي جرى التأكيد عليه بالتحول من فائض الادخار إلى امتصاص المدخرات. فبعد أن بلغ معدل الادخار المحلي الإجمالي ذروته بنحو 52.3% في عام 2008، هبط بنحو سبع نقاط مئوية تقريبا وقد يواصل الانحدار في السنوات المقبلة مع تعزيز الصين لشبكة الأمان الاجتماعي التي ظلت غير محكمة لفترة طويلة، وتشجيع الأسر الصينية على الحد من الادخار التحوطي المدفوع بالخوف.

من ناحية أخرى، يعمل انفجار التجارة الإلكترونية في اقتصاد متحول رقميا على نحو متزايد (أي بدون نقد) على توفير منصة قوية للمستهلكين الصينيين المنتمين إلى طبقة متوسطة ناشئة. ويشكل التحول من الإبداع المستورد إلى الإبداع الأصلي أهمية مركزية لإستراتيجية الصين الطويلة الأجل، لتجنب "فخ الدخل المتوسط" واكتساب مكانة القوة العظمى بحلول عام 2050، بما يتفق مع طموحات الرئيس شي جين بينج المئوية في "العصر الجديد".

وبما يتماشى مع الباثولوجيا البشرية لحالة الاتكالية المتبادلة، أصبحت تحولات الصين مصدرا لقدر متزايد من عدم الارتياح للولايات المتحدة، التي من غير الممكن أن تشعر بالسعادة إزاء محور الادخار في الصين. ومع تفاقم نقص المدخرات في أميركا سوءا الآن في أعقاب التخفيضات الضريبية الرديئة التوقيت في العام المنصرم، فسوف تصبح الولايات المتحدة أكثر اعتمادا على دول الفائض الادخاري مثل الصين لملء الفراغ. بيد أن تحرك الصين نحو امتصاص المدخرات يعمل على تضييق هذا الخيار.

الواقع أن تحويل صراع محصلته صِفر من الاتكالية المتبادلة إلى علاقة ذات محصلة إيجابية من الاعتماد المتبادل المفيد للطرفين هو السبيل الوحيد لإنهاء هذه الحرب الاقتصادية قبل أن تتحول إلى شيء أسوأ كثيرا

علاوة على ذلك، ورغم أن ديناميكية النمو الوليدة التي يقودها المستهلك في الصين كانت مبهرة وفقا لأغلب المعايير، فإن محدودية القدرة على الوصول إلى السوق قيدت الشركات الأميركية ومنعتها من الاستحواذ على ما ترى أنها حصة سوقية عادلة في منجم ثراء محتمل. وبالطبع، هناك جدال هائل يدور حول التحول في الإبداع، والذي ربما يكون كامنا في قلب حرب التعريفات الحالية.

أيا كان المصدر فإن مرحلة الصراع في الاتكالية المتبادلة أصبحت اليوم حاضرة. فالصين تتغير، أو على الأقل تحاول أن تتغير، في حين لا تحاول أميركا. وتظل الولايات المتحدة عالقة في عقلية متخلفة قوامها عجز الادخار فضلا عن عجز تجاري هائل متعدد الأطراف والحاجة إلى السحب بحرية من فائض المدخرات العالمي لدعم النمو الاقتصادي. ومن منظور الاتكالية المتبادلة، تشعر الولايات المتحدة الآن بأنها موضع ازدراء من قِبَل شريكتها التي كانت ممتثلة ذات يوم، وكما كان متوقعا، بدأت الآن توزع الهجمات في الاستجابة لهذه الحال.

وهذا يقودنا إلى السؤال الملح: هل ينتهي الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين إلى حل سلمي أو طلاق مؤلم؟ الواقع أن الدروس من السلوك البشري ربما تحمل الإجابة. فبدلا من الرد على اللوم، والازدراء، وانعدام الثقة، يتعين على كل من الدولتين أن تركز على إعادة بناء قوتها الاقتصادية من الداخل. وسوف يتطلب هذا تقديم التنازلات من الجانبين، ليس فقط على جبهة التجارة، بل وأيضا على جبهة الإستراتيجيات الاقتصادية الأساسية التي تتبناها كل من الدولتين.

الواقع أن معضلة الإبداع هي القضية الأكثر إثارة للجدال حتى الآن. وتضعها مرحلة الصراع في الاتكالية المتبادلة في إطار معركة مجموع مكاسبها صِفر: إذ تصور إدارة ترامب الادعاءات الأميركية بسرقة الملكية الفكرية من قبل الصين على أنها لا تقل عن تهديد وجودي لمستقبل أميركا الاقتصادي. ومع ذلك فإن هذه المخاوف مضخمة إذا نظرنا إليها بوصفها عَرَضا كلاسيكيا للاتكالية المتبادلة.

الواقع أن الإبداع هو شريان الحياة للازدهار المستدام في أي بلد. ولكن لا ينبغي لنا أن نصوره على أنه معركة محصلتها صِفر. فالصين تحتاج إلى التحول من الإبداع المستورد إلى الإبداع الأصلي لتجنب فخ الدخل المتوسط، وهو حجر عثرة أساسي يعرقل أغلب الاقتصادات النامية. ويتعين على الولايات المتحدة أن تعمل على إعادة التركيز على الإبداع من أجل التغلب على تباطؤ مقلق آخر للإنتاجية والذي قد يؤدي إلى ركود مؤلم.

ربما يكون هذا هو القول الفصل في الصراعات التجارية التي تتسم بالاتكالية المتبادلة. فكل من الولايات المتحدة والصين تحتاج إلى اقتصاد يقوده الإبداع والابتكار لتحقيق أغراضهما، وإذا استخدمنا مصطلحات الاتكالية المتبادلة، فبوسعنا أن نقول لتحقيق نموهما الشخصي. الواقع أن تحويل صراع محصلته صِفر من الاتكالية المتبادلة إلى علاقة ذات محصلة إيجابية من الاعتماد المتبادل المفيد للطرفين هو السبيل الوحيد لإنهاء هذه الحرب الاقتصادية قبل أن تتحول إلى شيء أسوأ كثيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.