أوروبا تسلك المنعطف الرقمي الخطأ

تصميم لصفحة علوم وتكنولوجيا ل"كريستوفر إنغمان"

كريستوفر إنغمان

لقد فشلت أوروبا في اجتياز أول اختبار كبير تخضع له في ما يتصل بصياغة السياسات الرقمية الجيدة. ففي مايو/أيار، أعلنت المفوضية الأوروبية أنها تعتزم إنشاء سوق رقمية موحدة تضم خمسمئة مليون مستهلك ومن شأنها أن تضيف 415 مليار يورو (463 مليار دولار أميركي) إلى الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، وأن تخلق نحو 3.8 ملايين فرصة عمل. ولكن من المؤسف أن القرار الأخير بشأن قضية رقمية رئيسية -خصوصية البيانات- يهدد بتخريب هذا الجهد.

في شهر يونيو/حزيران، صوَّت وزراء الشؤون الداخلية والعدالة في الاتحاد الأوروبي لصالح الاحتفاظ بصلاحيات وطنية كبيرة في مجال حماية الخصوصية الرقمية، بدلا من إنشاء مجموعة واحدة من القواعد التي يتعين تطبيقها في بلدان الاتحاد الأوروبي كافة. وإذا وافق البرلمان الأوروبي على اقتراحهم، فسوف يُعاد تطبيق قواعد وطنية متباينة. والأمر الأشد إثارة للقلق والانزعاج هو أنه من شأن هذا أن يفتح الباب لفقرات تحظر التنقيب الحميد المنخفض المخاطر عن البيانات، والذي يدفع الإعلان على شبكة الإنترنت.

تثير حملة الخصوصية في الاتحاد الأوروبي الاحتمال الحقيقي بأن تعمل القواعد الجديدة على تقويض نموذج الأعمال الذي تتبناه العديد من الشركات الأكثر بروزا على الإنترنت في أوروبا

حملة الخصوصية
إن الإعلان على الإنترنت يسمح لمواطني الاتحاد الأوروبي بالوصول إلى المعلومات، والمواد التعليمية، والقنوات التجارية، والمواقع الترفيهية، من دون دفع ثمنها بشكل مباشر. وتشهد المبالغ التي تنفق على الإعلان على الإنترنت في أوروبا نموا سريعا، كما تضاعفت عائدات هذه الصناعة إلى أكثر من أربعة أمثالها منذ عام 2006، حتى رغم ركود عموم الاقتصاد الأوروبي.

ولكن حملة الخصوصية في الاتحاد الأوروبي تهدد بتقويض كل هذا. فهي لن تخلق عبئا إداريا من خلال التكاليف الإضافية والمتاعب البيروقراطية فحسب؛ بل إنها تثير أيضاً الاحتمال الحقيقي بأن تعمل القواعد الجديدة على تقويض نموذج الأعمال الذي تتبناه العديد من الشركات الأكثر بروزا على الإنترنت في أوروبا.

وهو أمر مؤسف، وكان بوسعنا أن نتجنبه بسهولة. ففي عام 2012، قدمت المفوضية الأوروبية اقتراحاً يقضي بتغيير تشريع حماية البيانات القائم في الاتحاد الأوروبي، والتي صيغت أحدث نسخه في عام 1995، عندما كانت شبكة الإنترنت تلعب دوراً ضئيلاً في الاقتصاد. وكان النص الأولي واعدا. فقد استهدف توحيد وتوفيق الإطار القانوني المفتت في أوروبا، وتزويد الشركات بمتجر "المحطة الواحدة" المفيد، وطمأنة المستهلكين إلى أن بياناتهم تستخدم على نحو لائق.

ولكن من المؤسف أن العديد من البنود الأكثر نفعا تم التخلص منها منذ ذلك الحين. ففي الاجتماع الوزاري في يونيو/حزيران، أُفرِغ مبدأ متجر المحطة الواحدة المهم من مضمونه. وبدلا من السماح للشركات بالتعامل مع سلطات حماية البيانات في البلد الذي تتخذ منه مقرا أو قاعدة رئيسية في أوروبا، تُصِر البلدان الأعضاء على احتفاظ الهيئات التنظيمية الوطنية بالسيطرة.

في أفضل الأحوال، يهدد هذا التعريف الواسع غير المميز للبيانات الشخصية بخلق عقبات لا لزوم لها للمعلنين الرقميين الذين يتخذون من الاتحاد الأوروبي مقرا لهم

تعريف البيانات الشخصية
ووفقاً للقواعد الجديدة المقترحة، فإن أي سلطة "معنية" من حقها أن تعترض على أي قرار صادر عن هيئة تنظيمية وطنية أخرى، وهو ما من شأنه أن يفضي إلى إجراءات تحكيم معقدة تضم 28 هيئة تنظيمية.

وقد تبنى الوزراء أيضا تعريفا واسعا للبيانات الشخصية. فكل من ملفات "الكوكيز" (قطع صغيرة من البيانات المخزنة على جهاز حاسوب متصل بشبكة الإنترنت) وعناوين "بروتوكولات" الإنترنت (رمز يستخدم لتعريف جهاز الحاسوب عندما يكون متصلا بالإنترنت) سوف تدخل في التعريف، رغم أن أيا منهما لا تقدم رابطا بفرد بعينه.

وفي أفضل الأحوال، يهدد هذا التعريف الواسع غير المميز للبيانات الشخصية بخلق عقبات لا لزوم لها للمعلنين الرقميين الذين يتخذون من الاتحاد الأوروبي مقرا لهم. وفي أسوأ الأحوال، سوف يفضي هذا التعريف إلى تجريم نموذج أعمالهم.

الواقع أن القواعد الصارمة غير الضرورية في التعامل مع البيانات سوف تلحق الضرر بالشركات الأوروبية على نحو غير متناسب. ذلك لأن شركات مثل غوغل وفيسبوك وغيرهما من شركات الإنترنت الأميركية العملاقة، في وضع يمكّنها من الحصول على الموافقة الصريحة من قِبَل المستخدمين.

من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى طمأنة مواطنيه إلى أن بياناتهم سوف تستخدم على النحو اللائق، وسوف تساعد التدابير التي تسعى إلى تحقيق هذه الغاية في دفع عجلة نمو الاقتصاد الرقمي

اختيار مهم
ولكن قطاع الإنترنت في أوروبا تهيمن عليه شركات تتبنى نموذج أعمال يركز على تقديم الخدمات لشركات أخرى وليس إلى مستهلكين أفراد، مع قِلة من العلامات التجارية المعروفة التي تعالج بيانات المستهلكين ولكنها تفتقر إلى الاتصال المباشر بالمستخدمين. ونتيجة لهذا فإن البديل الحقيقي الوحيد المتاح لشركات الإنترنت الأوروبية سوف يتلخص في العمل مع منصات أميركية ضخمة والاعتماد عليها بشكل أكبر.

تُعَد المملكة المتحدة والسويد والنرويج وهولندا، من بين الدول الرائدة في مجال الإنترنت على مستوى العالم، ولكن العديد من الدول الأوروبية الأخرى متخلفة عن الركب. ونتيجة لهذا، فإن الاقتصاد الرقمي يساهم بنحو 4% في الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي، مقارنة بنحو 5% في الولايات المتحدة ونحو 7.3% في كوريا الجنوبية. وسوف تضمن هذه الهيئات التنظيمية الجديدة تخلف الشركات الأوروبية كثيراً عن الشركات الدولية المنافسة لها.

الواقع أن أوروبا تواجه اختيارا مهما. ومن المؤكد أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى طمأنة مواطنيه إلى أن بياناتهم سوف تستخدم على النحو اللائق، وسوف تساعد التدابير التي تسعى إلى تحقيق هذه الغاية في دفع عجلة نمو الاقتصاد الرقمي.

ولكن يتعين على صناع السياسات في القارة أن يتذكروا أن بقاء السوق المشتركة الرقمية أمر غير وارد ما دامت القواعد التي تعزز الأساليب الوطنية المتباينة في التعامل مع الخصوصية، وتعيق استخدام الإنترنت للبيانات المجهولة للإعلان الرقمي، قائمة. وعلى المحك الآن جيل كامل من رجال الأعمال الرقميين الأوروبيين.

________________
*الرئيس التنفيذي لشركة فيندمور السويدية المتخصصة في تسويق الحسابات على الإنترنت

المصدر : بروجيكت سينديكيت