سقراط في وادي السليكون

FILE - In this June 5, 2014 file photo, a man walks past a Google sign at the company's headquarters in Mountain View, Calif., U.S.A. The politically-fraught issue of forcing big, multinational companies to pay more tax will be high on the agenda at G-20 summit on Nov. 15 and 16 in Brisbane, Australia. There has been an ongoing effort by governments to crack down on tax avoidance, with companies such as Google and Amazon facing criticism for moving profits earned in one country to other countries with lower tax rates. (AP Photo/Marcio Jose Sanchez, File)
غوغل وغيرها من شركات التقنية مطالبة بأن تغير من سياستها المتعلقة باحترام خصوصية الآخرين (أسوشيتد برس-أرشيف)

لوسي ب. ماركوس-لندن

لو كانت ذبابة سقراط تعيش في وادي السليكون فإنها كانت ستجد العديد من الخيول الكسولة لتلدغها، ويبدو أن مواطني "تكنوبوليس" باتوا غافلين عن الكيفية التي تغيرت بها نظرة العالم الخارجي لهم وبشكل جذري، ذلك أن مركز التكنولوجيا الرائد في العالم -والذي كان ذات يوم يحظى بتبجيل العالم بوصفه مرتعا للإبداع- أصبحت النظرة إليه عامرة بالريبة والاستياء.

صحيح أن وادي السليكون لا يزال موضع إعجاب باعتباره مصدرا للإبداع والتدمير الخلاق، ولكن قطاعا عريضا من الناس بات يرى أيضا أنه فقد بوصلته الأخلاقية، ومع التقارير المتزايدة عن المواقف المتراخية تجاه خصوصية البيانات، والاستخفاف المستهتر بكرامة من هم أقل حظا، والشعور المتنامي بأن شركات التكنولوجيا تفرض أجنداتها السياسية المفضلة على بقية العالم ترتفع مشاعر السخط وخيبة الأمل على نحو متزايد.

وعندما ينظر العالم من الخارج فإنه يرى شركات تقطر شعورا بالأحقية في القيام بأي شيء، على سبيل المثال من خلال استهزائها بالقواعد التنظيمية المحلية وهي تتوسع إلى العديد من المدن في مختلف أنحاء العالم، من برلين إلى ريو دي جانيرو.

والواقع أن هذه الشركات البالغة الثقة في قوة معارفها ومهاراتها مقتنعة بأنها سوف توجه العالم إلى مسار الحقيقة، وهذا اليقين المتعجرف ليس جديدا، فقد تأسست الولايات المتحدة على الحماسة التبشيرية، ولكن الغطرسة الأخلاقية هي الجديدة.

بطبيعة الحال، ليس من الممكن وسم كل شركات التكنولوجيا بالعار باعتبارها المذنبة الرئيسية، ولكن الموجة الأخيرة من القضايا التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة تضر بسمعة القطاع ككل، وفيما ينظر العالم إلى وادي السليكون يرى حجرة عامرة بخيلاء القيم الأخلاقية، فمن المفترض أن تكون شركات التكنولوجيا الناضجة التي تحترم القانون أيضا داخل تلك الحجرة.

وادي السليكون يخاطر بتعريض نفسه لردة فعل عنيفة لن تعود على أي جهة بأي خير، فقد أصبح قادته في تباعد متزايد عن التناغم مع توقعات الجماهير في ما يتصل بالسلوك الأخلاقي والضمير

دماء جديدة
وقد أصبحت هذه القضايا بالغة الكثرة، فمؤخرا تم حظر شركة أوبر (Uber) -وهي شركة متلاعبة بالبيانات تروج لتطبيق تبادل السيارات وترفع الأسعار أثناء ذروة الطلب وتهدد الصحافيين الذين ينشرون أخبارا سلبية عنها في إسبانيا وهولندا وتايلاند وولايتين في الهند حتى الآن، بما في ذلك نيودلهي بعد مزاعم بأن أحد السائقين اغتصب راكبة.

وتأتي هذه التقارير في أعقاب الكشف عن أن الصور التي يشارك بها المستخدمون على موقع "سنابشات" لا يمكن حذفها كما وعدوا، وفي أغسطس/آب حظرت السلطات البرازيلية تطبيق الشبكة الاجتماعية "سيكريت" بعد فشل الشركة في الاستجابة لمخاوف التحرش الإلكتروني، والآن تفكر إسرائيل في اتخاذ خطوة مماثلة، والقائمة تطول.

إن وادي السليكون يخاطر بتعريض نفسه لردة فعل عنيفة لن تعود على أي جهة بأي خير، فقد أصبح قادته في تباعد متزايد عن التناغم مع توقعات الجماهير في ما يتصل بالسلوك الأخلاقي والضمير، وإذا فشلوا في توليد أفكار جديدة وابتكار أساليب جديدة فإن مشاكلهم سوف تتضاعف.

والشيء الوحيد الذي قد يساعدهم الآن هو الدماء الجديدة، فقدر كبير من نجاح وادي السليكون يرجع إلى شبكاته الضيقة: الأشخاص الذين كانوا ناجحين وكل منهم يدعم الآخرين، ولكن التاريخ يثبت أن البنية نفسها من الممكن أيضا أن تخنق الإبداع، فالمنظمات -مثلها في ذلك مثل الكائنات الحية- تتجه إلى التوالد الداخلي ويعتريها الضعف ثم تهلك في نهاية المطاف إذا فشلت في احتضان التنوع.

والواقع أن واحدة من أكثر الحقائق التي ظهرت للنور كشفا لواقع وادي السليكون في الأشهر الأخيرة كانت تتعلق بعدم التوازن العرقي والجنسي الشديد في شركات التكنولوجيا الكبرى، بما في ذلك آبل، وغوغل، وفيسبوك، وتويتر، ولم يكن ذلك صادما لأحد، ولكن من الواضح أن شيئا ما لا بد أن يتغير، فبطريقة أو بأخرى ينبغي للمكان -الذي يفتخر بالإبداع والقيام بالأشياء بطريقة مختلفة- أن يفعل هذا أيضا بشكل مختلف.

استقلال الفكر والعمل أمر بالغ الأهمية لأي اقتصاد لكي يؤدي وظيفته ولكي يبني الأشياء التي تدوم وتساهم في النمو الاقتصادي والرخاء

التكيف أو الفناء
في المقام الأول من الأهمية، هناك قيمة في التشكيك بالوضع الراهن وتحديه، فاستقلال الفكر والعمل أمر بالغ الأهمية لأي اقتصاد لكي يؤدي وظيفته ولكي يبني الأشياء التي تدوم وتساهم في النمو الاقتصادي والرخاء.

في اعتذار أفلاطون يدافع سقراط عن قيمة الحياة المختبرة: عادة التأمل الذاتي الصارم وطرح تساؤلات قاسية وغير تقليدية بل وربما شديدة الإزعاج على النفس، ويتعين على قطاع التكنولوجيا أن يتبنى هذه العقيدة.

من عجيب المفارقات أن التشكيك في الحكمة السائدة -وبالتالي اختراع حلول جديدة جذريا- كان أسلوب عمل وادي السليكون منذ البداية، ولكنه التزم بهذا النهج على المستوى الكلي وفي التعامل مع مشاكل في أماكن أخرى من الاقتصاد من دون أن يختبر ذاته ويخضعها للدراسة.

يتعين على مواطني وادي السليكون أن يشرعوا في تطبيق مهاراتهم في الإبداع والابتكار -وافتخارهم "بتكسير الأشياء"- على أنفسهم، فالسبيل الوحيد للتطور هو التكيف مع الضغوط البيئية الجديدة، والآن يواجه وادي السليكون -وهو ما يرجع بشكل كبير إلى سلوكه شخصيا- الكثير من هذه الضغوط، وما لم يتغير فسوف يفوته الركب.

والنبأ السار هنا هو أنه إذا كان أي مكان قد أثبت قدرته على الإبداع فهو وادي السليكون، ولكن الآن يتعين على مواطنيه أن يعترفوا بأنهم لا يملكون كل الإجابات، ولكن يبدو أنهم للأسف لا يدركون -حتى الآن على الأقل- وجود أي مشكلة، وكمثل "الحرفيين المهرة" الذين وصفهم سقراط "ادّعوا استنادا إلى قوة كفاءتهم الفنية فهما مثاليا تاما لكل موضوع آخر مهما بلغت أهميته".

كما أدرك معلم أفلاطون، فإن المعرفة القليلة قد تكون شيئا خطيرا، وينبغي لكل تقرير جديد عن السلوكيات الاستغلالية المسيئة لهذا القطاع أن يذكرنا بهذه الحقيقة.

____________
لوسي ب. ماركوس: الرئيسة التنفيذية لشركة ماركوس للاستشارات الاستثمارية.

المصدر : بروجيكت سينديكيت