مفقودون بإيطاليا.. أرقام بنظر السلطات التونسية والقلق يلازم أسرهم

وحيدة حاولت الانتحار حرقا حزنا على ابنها
الفضيلي احترق قلبها على فراق ابنها مهدي فقررت حرق نفسها في لحظة يئس

آمال الهلالي-تونس 

هم ليسوا بأحياء وليسوا بأموات، تنظر لهم الجهات الرسمية في تونس كأرقام ضمن عشرات المفقودين في رحلة قوارب الموت المتجهة نحو أوربا بعد الثورة، بينما تنتظر أمهاتهم بقلوب أعياها الرجاء أي خبر يحيي الأمل بلقاء قريب مع فلذات أكبادهن أو حتى بجثة تدفن في قبور تونس.

"التونسيون المفقودون في إيطاليا" ملف حارق اكتوت به مئات الأمهات الملتاعات من فقدان أبناء في عمر الزهور، انطلقت رحلة معاناتهم عام 2011 بعد الثورة التي شهدت خلالها البلاد أكبر موجة هجرة غير نظامية نحو إيطاليا عبر مياه البحر الأبيض المتوسط، استغل خلالها الشباب وتجار قوارب الموت "الحراقة" الانفلات الأمني، للإبحار خلسة نحو الشواطئ الإيطالية في رحلة ذهاب بلا عودة.

وحيدة الفضيلي واحدة من مئات الأمهات الثكالى، احترق قلبها على فراق ابنها مهدي فقررت حرق نفسها في لحظة يئس، انتهت بتشوه في وجهها وحروق بليغة في جسدها من الدرجة الثالثة.

تقول للجزيرة نت وهي تغالب دموعها "انقلبت حياتي رأسا على عقب بعد تاريخ 1 مارس/آذار 2011، حين تلقيت اتصالا هاتفيا من ابني مهدي يخبرني أنه يستعد للإبحار خلسة نحو السواحل الإيطالية انطلاقا من مدينة الهوارية المطلة على البحر المتوسط، رفقة العشرات من الشباب لينقطع الخط بعدها إلى يومنا هذا".

‪الميلي: ظللت أطرق كل الأبواب منذ عام 2001 لمعرفة مصير ولدي‬ الميلي: ظللت أطرق كل الأبواب منذ عام 2001 لمعرفة مصير ولدي (الجزيرة نت)
‪الميلي: ظللت أطرق كل الأبواب منذ عام 2001 لمعرفة مصير ولدي‬ الميلي: ظللت أطرق كل الأبواب منذ عام 2001 لمعرفة مصير ولدي (الجزيرة نت)

آخر اتصال
كانت تلك المكالمة كما تقول وحيدة "آخر اتصال تلقيته من ابني مهدي، بعد أن حاولت إقناعه بعدم المجازفة، سيما وأنه العائل الوحيد لي، وكان وضعه المهني مستقرا من خلال عمله بمجال السياحة، لكن توسلاتي ودموعي لم تشفع لي".

مصير ابن وحيدة ظل مجهولا إلى حين 28 مارس/آذار 2011 تاريخ بث إحدى القنوات الإيطالية تقريرا حول المهاجرين غير النظاميين في معتقلات إيطالية، حين اصطادت عدسة الكاميرا مهدي، لتتأكد الأم أن ابنها لم يغرق في البحر كما تروج الرواية الرسمية، بل وصل للأراضي الإيطالية رفقة شباب آخرين في تلك الرحلة.

محاولات الأم العثور على أي خبر يشفي غليلها حول مصير ابنها باءت بالفشل طوال هذه السنوات، سواء من الجهات الحكومية -كما تقول- أو من خلال بعض الجمعيات التي لا تزال تبذل مجهودات فردية لمعرفة مصير الشباب المفقودين في قوارب الهجرة نحو إيطاليا.

تركنا وحيدة تلملم دموعها وهي تحدق بصورة ابنها التي لا تفارقها أينما ذهبت، كنا على موعد مع هاجر الميلي وفاطمة الكسراوي وهما من الناشطات والمؤسِسات لجمعية "أمهات المفقودين" التي تعنى بملف المفقودين في إيطاليا.

هاجر فقدت اثنين من أبنائها محمد وبشير في رحلة اللاعودة نحو إيطاليا عام 2011 بينما فقدت فاطمة ابنها في ذات الرحلة، وتقول الأولى للجزيرة نت إنها كانت على علم بقرار ولديها الإبحار خلسة نحو الشواطئ الإيطالية على عكس فاطمة، بل إنها قامت بتسليمهما المال لمساعدتهما على السفر، بعد أن ضاقت ذرعا من إلحاحهما وتوسلاتهما بأن توافق على الأمر عل ذلك يكون فرصة لهما لتغيير حياتهما وتحقيق أمانيهما بحياة أفضل في إيطاليا.

مضت الآن ثماني سنوات على فقدان هاتين السيدتين فلذات الأكباد، لكنهما لم تفقدا الأمل في لقائهم أحياء، وقد مات زوج هاجر حسرة على ولديه الاثنين وظلت هاجر  رفقة فاطمة وأمهات أخريات يطرقن كل الأبواب في تونس وخارجها بلا كلل ولا ملل لمعرفة مصير أبنائهم الذين أبحروا خلسة في أحد قوارب الموت نحو إيطاليا في مارس/آذار 2011، وظل مصيرهم لغزا محيرا حتى يومنا هذا.

اتهامات للسلطات
عماد السلطاني من بين الناشطين في المجتمع المدني الذي أخذ على عاتقه مهمة البحث في ملف الشباب التونسي المفقود في إيطاليا، من خلال تأسيسه جمعية "الأرض للجميع" عام 2011 ضم فيها أمهات وعائلات شباب تونسي فقد في رحلات الهجرة غير النظامية نحو إيطاليا.

ولم يخف عماد مشاعر الإحباط من تعامل السلطات التونسية مع ملف المفقودين في إيطاليا، والذي يقدر عددهم كما يقول بـ 504 شخصا، بالرغم من امتلاك بعض العائلات -حسب تقديره- أدلة سمعية وبصرية تؤكد وصول أبنائهم إلى جزيرة لامبادوزا الإيطالية، وتوثيق عملية احتجازهم من قبل قوات الجيش الإيطالي لكن التواصل معهم انقطع منذ ذلك التاريخ.

وأكد السلطاني أن وزارة الشؤون الاجتماعية كونت عام 2015 وتحت ضغط العائلات والفاعلين في المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية لجنة تحقيق بملف المفقودين، لكن لم يتم التوصل لأي نتيجة وتوقف عمل اللجنة بلا سبب.

وبحسب آخر الإحصائيات التي نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية (منظمة غير حكومية تعنى بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية) فإن العدد الإجمالي للتونسيين المفقودين في رحلة الهجرة غير النظامية نحو إيطاليا من 2011 إلى 2013 يقدر بـ 305 شخصا، بينما تضاعف العدد بحلول عام 2018 ليصل إلى 1500 شخص.

‪السنين الطويلة لم تقطع أمل الكسراوي في لقاء ابنها‬  السنين الطويلة لم تقطع أمل الكسراوي في لقاء ابنها (الجزيرة نت)
‪السنين الطويلة لم تقطع أمل الكسراوي في لقاء ابنها‬  السنين الطويلة لم تقطع أمل الكسراوي في لقاء ابنها (الجزيرة نت)

مصير غامض
ويؤكد رئيس المنتدى مسعود الرمضاني للجزيرة نت أن الفاعلين في هذه المنظمة انسحبوا عام 2017 من اللجنة التي شكلتها السلطات التونسية للبحث في ملف المفقودين بسبب ما اعتبره تباطؤا غير مفهوم من الوزارات الموكول لها النظر في الملف، وبعد فقدان الأهالي الثقة في السلطات في إنهاء معاناتهم والكشف عن مصير أبنائهم.

وحاولت الجزيرة نت التواصل مع جهات حكومية في كل من وزارتيْ الشؤون الاجتماعية والخارجية لمعرفة مصير ملف المفقودين، لكن المصادر أكدت أن الملف لم يحرك ساكنا منذ تجميد عمل اللجنة الحكومية حول التونسيين المفقودين بالخارج، وأجمعت مصادر متطابقة في كلتا الوزارتين أن العمل الآن على تحريك هذا الملف موكول لوزير الهجرة والتونسيين بالخارج رضوان عيارة الذي كلفه رئيس الحكومة يوسف الشاهد بهذه الحقيبة بالتعديل الوزاري الجديد.

المصدر : الجزيرة