الغرب وحقوق ما دون الإنسان

"الإنسان في الممارسة الفعلية لحقوق الإنسان عند الغرب خارج حدوده يصبح موضع اهتمام عندما يصبح في منزلة ما دون الإنسان. وحتى هذا لا يكفي، فلابد أن يكون في الدفاع عنه مصلحة ما" الكاتب محمد بن نصر (صورته على النظام)

محمد بن نصر*

هل يدافع الغرب فعلا عن حقوق الإنسان؟ سؤال قد يستغربه البعض وقد يلتبس جوابه على البعض الآخر. قبل الإجابة عن هذا السؤال أود البدء بعرض عدد من المقدمات من شأنها أن تساعد على استيعاب الإشكال.

مقدمات
الأولى- يؤمن كبار الإستراتيجيين الغربيين بأن الحضارة الغربية ما زالت تملك شروط الاستمرار والتجدد لأنها ما زالت قادرة على احتكار العلم والقوة والمال، وما زال صاحب القلم (العالم والمفكر والمثقف) وصاحب الشوكة بتعبير علمائنا القدامى (صاحب السلطة السياسية) وصاحب المال؛ الأضلاع الثلاثة التي ترتكز عليها الحضارة الغربية وكل حضارة عرفت كيف تؤمّن شروط استمرارها، يتحركون ضمن إستراتيجية واحدة، عنوانها الكبير التحكم في العالم من خلال التحكم في الإنتاج والتوزيع وفرض نمط معين من الاستهلاك.

والسؤال الذي تفرضه هذه المقدمة هو: هل من المعقول أن يسعى من يؤمن بالصراع وضرورة البقاء للأقوى أن يقبل بتغيير في موازين القوى وإحداث خلل ما في المعادلة التي تريد أن تبقي على الوضع الراهن: فئة قليلة من الدول منتجة والغالبية منها مستهلكة؟

الثانية- الإنسانية مدينة للغرب في إيجاد الكيفيات المناسبة لتحقيق جملة من القيم تغنّى بها الكثيرون في جميع الأزمان وفي كل الحضارات. آمن الناس بمبدأ الشورى وعجزوا عن إيجاد الآليات والشروط المناسبة لتحقيقه في الواقع، بل أنتجوا كل أنماط الاستبداد الممكنة عمليا.. آمنوا بالعدالة ولم يفلحوا في إيجاد الأنظمة الاجتماعية المحققة للعدالة، بل دفعوا بشعوبهم إلى مغامرات إنقاذية فاشلة، ولكن الغرب يعلم أن تعميم هذه الكيفيات وتطبيقها خارج حدوده سيخلق حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي التي تمكن الشعوب الأخرى من امتلاك العلم والمعرفة، وتتحول من الاستهلاك الفوضوي إلى الإنتاج المُرشد، ولذلك لم يستطع الغرب إلا أن يكون متمدنا مع نفسه، متوحشا مع غيره.. تلك هي حقيقته التي تتخفّى بأساليب عدة فلا يصل إليها إلا من خبرها عن علم أو عن تجربة. فمن يستطيع أن يجد الخيط الناظم بين الطائرة التي تلقي سمومها من بُعد شاهق، وبين القرارات التي تتخذها المؤسسات الدولية في مكتب من مكاتب الطوابق العليا. الأولى تترك في الحال وراءها عددا من القتلى والجرحى، والثانية تترك وراءها مئات الآلاف من الأشقياء الذين يموتون ببطء. كلتاهما صدرتا من مشكاة واحدة، الفرق الوحيد أن الأولى تأتي مزمجرة، والثانية تتلوها مبتسمة في نشرة الأخبار حسناء من الحسناوات.

الثالثة- سيقول البعض وهم محقّون في ذلك، أليس من الطبيعي أن يحافظ القوي على قوته ويسعى لتأمين شروط تفوقه؟ أليس من الأجدر البحث عن سر تشبث الضعيف بضعفه وحرصه على هوانه؟ فلو لم يجد الغرب قوما توزع أمرهم بين تمجيده وشجبه وانتظار سقوطه واجتمع أمرهم على التنافس في الرداءة وتركوه ينافس على الإتقان، لما كانت الشعوب الأخرى في هذه الحال من التبعية والهوان، ولسان حالهم قول الإمام الشافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا ** وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ ** ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئب ** ويأكلُ بعضنا بعضاً عيانا

نعم، لا شك ولا جدال في ما يزعمون، فلا شيء أعسر على الإنسان من النظر في عيوبه والوقوف عند التشخيص الموضوعي لحاله والعمل بالأفعال لا بالأقوال على تجاوزها، فالمُراد هنا هو الكشف عن زيف الادعاء باحترام مواثيق حقوق الإنسان والإيهام بذلك من خلال استقباله لبعض من ضحاياه يريد أن يظهرهم في الصورة في محاولة يائسة لتبييض جرائمه.

من المفارقات العجيبة أو التي تبدو كذلك، أن الغرب عمل دوما على دعم الأنظمة الدكتاتورية، وعندما يتحول المقاومون لهذه الأنظمة المستبدة إلى سجناء أو متابعين يبتغون الأمن في المنافي، يدفع ببعض إعلامييه للدفاع عنهم باعتبار الإلزام الأخلاقي، فيستقبل اللاجئين الفارين من بطش أتباعه

دفاع عن الضحية
من المفارقات العجيبة أو التي تبدو كذلك، أن الغرب عمل دوما على دعم الأنظمة الدكتاتورية، وعندما يتحول المقاومون لهذه الأنظمة المستبدة إلى سجناء أو متابعين يبتغون الأمن في المنافي، يدفع ببعض إعلامييه للدفاع عنهم باعتبار الإلزام الأخلاقي، فيستقبل اللاجئين الفارين من بطش أتباعه. هناك فرق شاسع بين دعم من يسعى لبناء مجتمع حر وعادل تتوفر فيه شروط النهضة العلمية، وبين تقديم المساعدات المادية لمن سقط وهو يقاوم الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي.

الإنسان في الممارسة الفعلية لحقوق الإنسان عند الغرب خارج حدوده يصبح موضع الاهتمام عندما يصبح في منزلة ما دون الإنسان. وحتى هذا ليس شرطا كافيا، فلا بد أن يكون في الدفاع عنه مصلحة ما، ولذلك لا تراه يهتم بضحايا الرأسمالية المتوحشة الذين يهربون من الموت إلى الموت فيلقون بأنفسهم في البحر لعلهم يبلغون الأرض التي تُحترم فيها حقوق الإنسان. بعض الطيبين المغفلين يستهويهم الجلوس في بيوتهم المكتنزة بمنتجات الغرب "الكافر"، ويستهويهم الحديث عن قرب سقوطه، معللين ذلك بانتشار الإباحية الأخلاقية كما يفهمونها في ربوعه، وينسون أن ما لا يكون سببا في النهوض لا يكون سببا في السقوط.. فمتى كانت الأخلاق بفهمهم الضيق سببا في نهضة الغرب حتى يكون غيابها سببا في سقوط حضارته، مع الإشارة إلى أن الإتقان على سبيل المثال قيمة أخلاقية وهي شرط لازم لربح المنافسة على إنتاج الأفضل.

هذه الإستراتيجية المزدوجة الأبعاد في مجال حقوق الإنسان بدأت تشهد صعوبات عديدة. قبل حلول حقبة العولمة كانت جرائم الغرب يتحمل عبئها جيل ويقرأها الجيل الذي يأتي بعدها فتتحول إلى سرديات تاريخية بلا روح، لا يهتم بها إلا من له صلة مباشرة بها، ولكن الآن أصبح بإمكان المواطن إذا لم يكن من بين الضحايا أن يتابع تفاصيل الجريمة على الشاشة وفي ذات اللحظة، فأصبح بإمكانه الربط بين الجريمة وشبكة الإجرام من مخططين وممولين ومنفذين. لا شك أن الأسلوب المعتمد في الحديث عن هذه الجرائم عبر وسائل الإعلام بكل أنواعها، يتم بشكل سريع وماكر، حيث تتخلله الكثير من اللقطات الإلهائية التي من شأنها تبديد ذهن المشاهد والمستمع فتمنعه من التركيز والربط بين الأحداث. بشاعة المَشاهد قد تؤدي في بعض الأحيان إلى ردود أفعال انفعالية عادة ما يستغلها، مستفيدا مما أسماها قوانين الإرهاب التي أصبحت تُرهب من يتحدث فيه لا من يقوم به، لأن من يقوم به لا يهتم بها ولا يقرؤها.

رهانات خاسرة
بعض الغربيين ممن يدافعون عن استقبال اللاجئين، يعللون ذلك علنا باحترامهم لمواثيق حقوق الإنسان وتمسكهم بها، ويعللونها فيما بينهم بأن استقبالهم للاجئين وإنقاذهم لهم من جحيم حكامهم سيجعلهم أكثر استعدادا وقابلية للتخلي عن هويتهم الدينية واندماجهم بشكل كلي في الثقافة الأوروبية والتشبع بقيمها، المستقيم منها والمعوج. لكن هؤلاء نسوا أن ذات الرهان كان وراء استقبال العمال الوافدين الأول من شمال أفريقيا، وكم كان ذلك الرهان خاسرا رغم قلة حيلة هؤلاء وضعف أسباب صمودهم. كل المحاولات لاستيعابهم لم تمنع من تنامي الحضور الإسلامي في أوروبا، وعلى هذا المنوال سيكون حال الوافدين الجدد، وهم أكثر فهما لهذه الرهانات وأكثر قدرة على التصدي لها.

ما سقناه يعبّر عن المنطق السائد والفاعل، ولا ينفي وجود شخصيات ومنظمات -على قلتها- صادقة في تبنيها لقضايا حقوق الإنسان، وقد عانت من تصادم أعمالها الخيرية مع الخيارات العامة للدولة.

________________
*كاتب وأكاديمي تونسي

المصدر : الجزيرة