مقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين بين الممكن والمأمول

الحالة الفلسطينية الإسرائيلية - أماني السنوار

أماني السنوار*

لم يكن عبثا أن يحذر المحلل السياسي الإسرائيلي الشهير شيمون شيفر من مستقبل أسود ينتظر القادة الإسرائيليين بعد العدوان الأخير على غزة حين قال في مقابلة متلفزة عبر القناة العبرية الثانية بثت في 5 أغسطس/آب الماضي إن "إسرائيل تورطت بمحاكم دولية، وإن لابسي البزات العسكرية لن يكون بمقدورهم بعد اليوم الهبوط بعدد واسع من المطارات حول العالم"، فإسرائيل تعلم أن فاتورة الدم التي دفعها المدنيون الفلسطينيون هذه المرة كانت الأكبر منذ سنوات، وأن عبء هذه الفاتورة سيظل يطارد قادتها لأمد طويل.

تهاوي الرواية الإسرائيلية
بعد 51 يوما من العدوان باشرت طواقم البحث الميداني في المؤسسات الحقوقية والدولية عملها في جمع الشهادات والأدلة المروعة عن عمليات القصف العشوائي والتصفية المباشرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين خلال محاولة بعضهم الفرار لمناطق أكثر أمنا، وفق ما كشف عنه تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش الأميركية في 4 أغسطس/آب الماضي.

كما كشف تحقيق لصحيفة الديلي بيست الأميركية في 6 سبتمبر/أيلول الجاري عن إعدام الجيش ستة من عناصر حركة الجهاد الإسلامي بعد حبسهم في حمّام أحد المنازل.

تركيز إسرائيل الواضح خلال الحرب على إيلام المدنيين وإيقاع أكبر قدر من الخسائر في أرواحهم وممتلكاتهم عرّى زيف ادعاءاتها بمشروعية أهدافها المعلنة للحرب، حيث استشهد ما يزيد على ٥٣٠ طفلا وفقا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، الأمر الذي أكده تصريح صادر في 24 يوليو/تموز عن مسؤولة العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة فاليري آموس، حذرت فيه من أن طفلا يقتل كل ساعة في غزة.

في حين صرح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مؤتمره الصحفي عشية انتهاء الحرب بأن جيشه "قتل حوالي ألف من المخربين"، الأمر الذي يعني اعترافا ضمنيا بقتل ١١٥٠ مدنيا.

يشار إلى أن الاستخدام الإسرائيلي الفاضح لأداة إنهاك المدنيين كورقة ضغط في المساومة السياسية لا يقل خطورة عن استخدام المدنيين دروعا بشرية، الأمر الذي يجرمه القانون الدولي.

تركيز إسرائيل الواضح خلال الحرب على إيلام المدنيين وإيقاع أكبر قدر من الخسائر في أرواحهم وممتلكاتهم عرى زيف ادعاءاتها بمشروعية أهدافها المعلنة للحرب

هل نحن أمام غولدستون جديد؟
ينتظر قطاع غزة استقبال لجنة تقصي الحقائق الأممية التي أقرت في يوليو/تموز الماضي، وتضم القاضية الأميركية ماري ماكغوان ديفيس، والخبير القانوني في الأمم المتحدة السنغالي دودو ديان، ويرأسها بروفيسور القانون الدولي الكندي ويليام شاباس المعروف بمواقفه الجريئة ضد إسرائيل، ومن المتوقع أن تباشر اللجنة عملها مطلع أكتوبر/تشرين الأول بعد التثبت من وقف طويل الأمد لإطلاق النار كما ينص بروتوكول مجلس حقوق الإنسان.

اللجنة التي صوت لصالحها بالأغلبية في المجلس مُنحت سقفا وصلاحيات أعلى من تلك التي تمتعت بها لجنة المحقق ريتشارد غولدستون التي عينت في أبريل/نيسان عام ٢٠٠٩ للتحقيق بانتهاكات حرب "الرصاص المصبوب"، حيث بمقدور اللجنة المرتقبة أن تعطي توصيفا قانونيا للانتهاكات الإسرائيلية، فتسميها رسميا جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، كما لديها الصلاحية لدعوة الأمين العام للأمم المتحدة والمدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية للتعاطي مع أحكامها القانونية دون الحاجة إلى وسيط، وذلك وفق المادة رقم ١٣ من قرار مجلس حقوق الإنسان الصادر بتاريخ ٢٤ يوليو/تموز، بعكس ما كان عليه تقرير غولدستون الذي تم تهميشه بإرادة سياسية.

تقرير لجنة تقصي الحقائق الذي جدولت مناقشته في مجلس حقوق الإنسان خلال جلسته الـ28 في مارس/آذار من العام القادم سيعد حال تجهيزه وثيقة رسمية من وثائق الأمم المتحدة، ويمكن البناء عليها كدليل مكتمل الأركان أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، وأمام القضاء المحلي للدول الموقعة على اتفاقيات جنيف، في حال اختار الفلسطينيون مسار الولاية القضائية العالمية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وهو الأمر الذي اعتمدته محكمة بريطانية سابقا كدليل إدانة كافٍ ضد تسيبي ليفني مكن من استصدار مذكرة توقيف بحقها في سبتمبر/أيلول 2009.

ويبقى تماسك الجبهة الفلسطينية الداخلية عنصرا مفتاحيا لضمان تقرير دولي منصف، فبعض الشهادات غير المسؤولة التي يعتقد مراقبون أنها انطلقت من دوافع سياسية مناهضة لحركة حماس تم توثيقها في تقرير غولدستون كمرتكز لإدانة المقاومة الفلسطينية بارتكاب جرائم حرب والتمترس خلف المدنيين حين أدلى مسؤول في أحد الفصائل الفلسطينية المنافسة بشهادة وثقها التقرير قال فيها إنه شاهد صواريخ محلية الصنع تطلق بالقرب من مجمع الشفاء الطبي الذي قصفته إسرائيل في اليوم الثاني من الحرب، بينما جاءت شهادات العاملين في المشفى وجيرانه بعكس ذلك وفق التقرير نفسه.

الاستخدام الإسرائيلي الفاضح لأداة إنهاك المدنيين كورقة ضغط في المساومة السياسية لا يقل خطورة عن استخدام المدنيين دروعا بشرية، الأمر الذي يجرمه القانون الدولي

الاختصاص القضائي الدولي
طور مبدأ الولاية القضائية العالمية كنظام قانوني يهدف إلى التغلب على الثغرات الموجودة في القانون الدولي، والتي تمكن مرتكبي الجرائم والمخالفات الجسيمة للمواثيق الدولية من الفرار من العقاب، ولعل الحالة الفلسطينية الإسرائيلية من أبرز النماذج العالمية التي تتوفر فيها من الناحية القانونية جميع الشروط المتعارف عليها لإنفاذ مبدأ الولاية القضائية العالمية، ودواعي ممارستها ومقاصدها.

فوفق الاتفاقيات الثنائية الناظمة للعلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، لا تملك الأخيرة ولاية قضائية على الإسرائيليين، فلا يمكنها إخضاع أي إسرائيلي للاعتقال أو التحقيق، وعليه يخرج خيار ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين من قبل القضاء الفلسطيني من ضمن خيارات إنصاف الضحايا.
وبالتوازي، فقد ثبت بالقانون وبالممارسة العملية أن إسرائيل لا تقيم وزنا لالتزاماتها الدولية بالتحقيق مع مرتكبي الانتهاكات ضمن صفوف جيشها وقادته، حيث لا يلتزم القضاء بمعايير الإدارة الفعالة للعدالة حين يتعلق الأمر بانتهاك حقوق الفلسطينيين، كما أن انعدام الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية يحبط مساعي إنصاف الضحايا عبر القضاء الإسرائيلي.

وحيث إن دولة فلسطين بعد قبولها مراقبا في الأمم المتحدة لم تصادق حتى اللحظة على نظام روما الأساسي الناظم لعمل المحكمة الجنائية الدولية، فإن المحكمة لا تمتلك التفويض القانوني المبدئي للنظر في الجرائم المرتكبة من قبل إسرائيل ضد الفلسطينيين.

وبهذا، يشترط للنظر في أي انتهاك أن يقوم رئيس السلطة الفلسطينية أو رئيس وزرائها أو وزير خارجيتها بتفويض المحكمة بالنظر في قضية ما، وهو التفويض الذي حجبه وزير الخارجية رياض المالكي بعدما قامت كبيرة المدعين في المحكمة الدولية الغامبية فاتو بنسودا بسؤاله عنه خلال لقائهما في لاهاي في 5 أغسطس/آب، وفق ما كشفت عنه وثيقة رسمية سربها الإعلام، ونشر ما يدعمها على مركز إعلام المحكمة، مما يعني أن القرار السياسي في السلطة يعطل هذا الخيار حتى اللحظة.

ولذا تعد هذه التوليفة أساسا وازنا لتفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية، وهو الخيار الذي يُلزم الدول الأطراف في اتفاقيات جنيف -وفقا لتفسير اللجنة الدولية للصليب الأحمر للمادة رقم ١ المشتركة في اتفاقات جنيف الأربعة- بالتحقيق في جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم التعذيب المرتكبة في أي مكان بالعالم، من دون الاشتراط بأن يكون الضحايا أو مرتكبو الجرائم من حاملي جنسية الدولة التي تحرك الدعاوى القضائية في محاكمها المحلية، وهما المتعارف عليهما بشرطي الجنسية السلبية والإيجابية.

وتفيد التجارب الوليدة -التي خاضتها مؤسسات فلسطينية وجماعات ضغط في أوروبا- بأن اللجوء لمكاتب المحاماة الخاصة هناك لتحريك قضايا ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحاكم المحلية -عملا بمبدأ الولاية العالمية- سيكون خطوة متقدمة باتجاه تضييق الخناق على إسرائيل أوروبيا ودوليا.

 فعلى الرغم من التعديلات القانونية التي أجرتها دول أوروبية -أبرزها بريطانيا وإسبانيا على تشريعاتها لمنع تكرار إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين- فإن المملكة المتحدة على سبيل المثال ما زالت متشككة بنجاعة هذه التعديلات في ظل جسامة الانتهاكات الإسرائيلية والتزامات البلاد أمام القانون الدولي، الأمر الذي دفعها لمنح تسيبي ليفني حصانة خاصة ومؤقتة لمرتين خلال زيارتيها إلى المملكة المتحدة عامي 2011 و 2014، خشية خروج الأمور عن نصابها واستصدار مذكرة اعتقال جديدة بحقها.
 
يذكر أن مثل هذه الحصانة هي إجراء مخالف لالتزامات الدول تجاه القانون الدولي، مما يضع المملكة المتحدة في حرج محلي ودولي، فتحاول تقليل استخدامها ما أمكن لصالح المسؤولين رفيعي المستوى من أمثال ليفني، بينما سيجد قادة الصف الثاني وجنرالات الجيش في إسرائيل أنفسهم مضطرين أكثر لتجنب السفر إلى مثل هذه الدول، مما يعني حصارا سياسيا وقانونيا ضد إسرائيل. 
 
——————
* باحثة قانونية متخصصة في العلاقات الأوروبية الإسرائيلية

المصدر : الجزيرة