"حبة الفأر".. داء دخيل ينخر الأجساد بالقيراون التونسية

ناجح الزغدودي-القيروان

بعينين ضيقتين تكاد التجاعيد الكثيفة تغمضهما، ترمق الجدة لطيفة غيضاوي أحفادها اليتامى بحسرة ولوعة وهي تعلم في سرها أنهم لا يلعبون، بل يتألمون في صمت جراء داء "الليشمانيا" الذي حوّل طفولتهم البريئة إلى جحيم.

وتقيم الجدة لطيفة (60 عاما) بمنزل مكسو بالطين في مكان وضيع بمنطقة "بئر الغول" المعزولة في بلدية الشراردة بريف محافظة القيروان بالوسط التونسي.

وتشكو هذه المرأة التونسية ضيق الحال، كما تشكو مرض "حبة الفأر" الذي يحاصرها وأهلها من كل جانب بعد أن أصاب أربعة من أبنائها وتمكّن من أحفادها السبعة وغزا أجسامهم الفتية.

ولا تنشغل كثيرا بإصابتها في ساقيها الحافيتين بقدر ما تبدي قلقها إزاء إصابة بناتها وأحفادها بالمرض الذي تحوّل إلى شبح مرعب بعد تسجيل إصابات أخرى في أرياف القيروان وعشر محافظة أخرى منها سيدي بوزيد وقفصة والمهدية.

وعلى المستوى الرسمي، أحصت وزارة الصحة العام الماضي 655 حالة إصابة مقابل 400 إصابة عام 2016.

و"الليشمانيا" وهو مرض يفتك بالجلد البشري وتسببه فطريات ينقلها البعوض للإنسان من الفئران ومن الكلاب غير الملقحة. ويسمى محليا بـ"حبّة الفأر" لكون أن الفئران تحمل المرض مثل خزان متنقل.

وروت لطيفة للجزيرة نت جانبا من مشاعر القلق الذي تكشفه حركات خطوط وجهها ونبرات صوتها المتعثرة، وهي معاناة تزداد مع كل إصابة جديدة تلحق بأفراد عائلتها المنكوبة.

‪المرض يفتك بالجلد البشري وتسببه فطريات ينقلها البعوض للإنسان‬ (الجزيرة نت)
‪المرض يفتك بالجلد البشري وتسببه فطريات ينقلها البعوض للإنسان‬ (الجزيرة نت)

تقرحات مؤلمة
وتبدأ الإصابة بالمرض بحكة صامتة ولا إرادية لمكان لدغة البعوض. ومع اشتداد حرقة اللسعة يكرر الأطفال الحك إلى أن تبرز التهابات على الجلد سرعان ما يصيبها التقرح. ومع مرور الوقت، تنتشر التقرحات في سائر الجسد وتصبح مرتعا للبعوض والذباب.

ولا تفلح محاولات العلاج البدائية التي تقوم بها الجدة باستعمال الصابون وعقاقير التطهير الحُمر، فتبرز مع الأيام رضوض مؤلمة في حجم أزرار القميص وتنتشر على سائر الجسد، ثم تتسع على شكل حجم قطع نقدية.

وكأنها في حرب بلا هوادة مع الليشمانيا، تواصل الجدة المكلومة تعداد الضحايا دون أن تتحكم في زفرات الضيق المنبعثة منها. وتتحدث عما خلفه المرض في يد صغرى بناتها التي ترك المرض تشوها بيدها اليسرى.

‪الجدة لطيفة روت للجزيرة نت ما خلفه المرض من متاعب لها ولأسرتها‬ الجدة لطيفة روت للجزيرة نت ما خلفه المرض من متاعب لها ولأسرتها (الجزيرة نت)
‪الجدة لطيفة روت للجزيرة نت ما خلفه المرض من متاعب لها ولأسرتها‬ الجدة لطيفة روت للجزيرة نت ما خلفه المرض من متاعب لها ولأسرتها (الجزيرة نت)

الضغوط النفسية
وإضافة إلى الكوابيس والضغوط النفسية، تسببت التقرحات التي شوهت جسدها في عقد نفسية وعزلة للابنة الصغرى جعلتها تنقطع عن الدراسة وتدخل في اكتئاب لمدة طويلة.

ورغم نداءات الاستغاثة المتكررة الموجهة للسلطات من أجل إنقاذ الأطفال من الداء المتربص بالكل، الذي لم تٌجد فيه نفعا أي أدوية استطاعوا توفيرها، لم يبد أي من المسؤولين المحليين اهتماما بنكبة "آل الغيضاوي".

وأمام مرارة الواقع وضعف الجانب المادي، تقول الجدة بحرقة "لم يزرنا أحد ولم يساعدنا أي أحد كان على مكافحة المرض الذي نخر أجساد أطفالي جراء الحشرات وتكاثر الفئران وانتشار المستنقعات والسباخ والخنادق التي يسكب بها "المرجين" الذي تطرحه كنفايات معاصر الزيتون".

ولم تشرع بلدية الشريطية حتى الآن في تنفيذ أي برامج وقائية، بينما وعدت رئيسة البلدية وصال مطيراوي باستقدام طائرة مخصصة لرش المستنقعات بالمبيدات قصد مكافحة البعوض.

الأطفال يعانون الفقر بالإضافة إلى المرض(الجزيرة نت)
الأطفال يعانون الفقر بالإضافة إلى المرض(الجزيرة نت)

الكيّ بالنار
وفي سعيها الدؤوب للقضاء على المرض، توصل معهد "باستور" التونسي المتخصص في الأبحاث الطبية ومكافحة الأوبئة إلى استحداث علاج باعتماد تقنية الكي بالنار الباردة والنار الساخنة بعد أكثر من ثلاثين عاما من الأبحاث المتواصلة.

وقد أثارت الأبحاث والتجارب جدلا بسبب اتهامات وجهت للمعهد باستخدام المواطنين المصابين كفئران تجارب، وفق ما نقله تحقيق مصور نشرته الجزيرة سابقا.

وأوضح الطبيب المشرف على العلاج الدكتور محمد صالح البرّيني للجزيرة نت أنه تم منذ عامين إحداث وحدة إقليمية بمستشفى بوحجلة في القيروان مكنت من علاج 47 حالة عام 2017 منهم تلاميذ بمدرسة الشرطة بسد سيدي سعد. وتسجل المنطقة بدورها إصابات عديدة بحبة الفأر بسبب وجود الفئران في محيط السد.

وفي غمرة هذا الواقع البئيس، لا تزال الجدة تعلق آمالا كبيرة على تدخل السلطات لحمايتها وأحفادها من المرض، وتخصيص قافلة طبية تنقذ الأطفال وتساعدهم في الرجوع إلى مقاعد الدراسة.

المصدر : الجزيرة