رغم الثورات التي نتجت عنها.. الخصخصة مستمرة

سلامة كيلة - رغم أن الثورات كانت نتاج السياسة الاقتصادية التي بدأت منذ سنة 1974 والتي سميت بالانفتاح الاقتصادي والدخول في اتفاقات مع صندوق النقد الدولي تفرض الخصخصة فإن ما يحدث الآن هو استمرار في تطبيق تلك الاتفاقات واستمرار في السياسة الاقتصادية ذاتها

سلامة كيلة

رغم أن الثورات كانت نتاج السياسة الاقتصادية التي بدأت منذ العام 1974 والتي سميت بالانفتاح الاقتصادي، والدخول في اتفاقات مع صندوق النقد الدولي تفرض الخصخصة وتخلي الدولة عن دورها الاقتصادي، وحل أزمة "عجز الميزانية" عبر بيع القطاع العام, فإن ما يحدث الآن -أي بعد سنوات أربع من انفجار الثورات- هو الاستمرار في تطبيق تلك الاتفاقات، والاستمرار في السياسة الاقتصادية ذاتها.

ربما يكون ذلك ملفتاً، ويطرح أسئلة مثل: ألم تتعلم النظم أن سياساتها تلك هي التي فجرت الثورات، وبالتالي وجب أن تغيّر فيها؟ ولماذا هذا الإصرار على استمرار تلك السياسات التي تؤدي إلى الثورات؟

تفكيك دور الدولة الاقتصادي
عودة دور صندوق النقد الدولي

تفكيك دور الدولة الاقتصادي
أفضت السياسات الاقتصادية التي جرى اتباعها لتفكيك دور الدولة الاقتصادي، وربط الاقتصاد المحلي بالاقتصاد العالمي (أي الرأسمالي)، إلى نشوء وضع أوجد مشكلتين في بنية الاقتصاد والمجتمع:

أدت الخصخصة إلى انهيار الصناعة والزراعة معاً، وبات الاستيراد أساس الحصول على السلع الصناعية والزراعية (رغم أن بلداننا زراعية بالأساس)، فتزايد ضخ الأموال إلى الخارج، وبات كل النشاط الاقتصادي يقوم على نهب الداخل لمصلحة ضخ الأموال إلى المراكز الإمبريالية، ولمصلحة الطغم المالية

– الأولى تتعلق بتحويل "النمط الاقتصادي"، فتحت لافتة الانفتاح الاقتصادي والخصخصة لم يجر فقط بيع مؤسسات القطاع العام المنتجة، بل جرى تدميرها، ونهض على أنقاضها نمط ريعي يقوم على تركيز النشاط في العقارات والخدمات والسياحة والاستيراد والبنوك، والبورصة.

وكل هذه القطاعات تقوم على التوظيف السريع (ما يسمى الاستثمار القصير الأجل)، وهو ما يناسب نشاطاً مضارباً، ويسهّل النشاط "المافياوي"، لكنه لا ينتج فائض قيمة فعلية، وبالتالي تكون الأرباح "وهمية" رغم أنها مرتفعة أكثر من الأرباح في الاقتصاد الحقيقي، وهو يستوعب جزءاً ضئيلا من القوى العاملة، وذات نوعية محددة.

لقد أدت الخصخصة إلى انهيار الصناعة والزراعة معاً، وبات الاستيراد أساس الحصول على السلع الصناعية والزراعية (رغم أن بلداننا زراعية بالأساس)، فتزايد ضخ الأموال إلى الخارج، وبات كل النشاط الاقتصادي يقوم على نهب الداخل لمصلحة ضخ الأموال إلى المراكز الإمبريالية، ولمصلحة الطغم المالية.

– الثانية هي تحقيق التفارق الطبقي، حيث تمركز الرأسمال بيد أقلية وجرى إفقار وتهميش الأغلبية المجتمعية. هذا التهميش الذي نتج عن التصاعد الكبير في البطالة من جهة، وتدني الأجور من جهة أخرى.

وقد أدت هذه العملية إلى حدوث عملية نهب شامل طال ملكية مجتمعية. فمثلاً كانت القيمة الفعلية للقطاع العام المصري في ثمانينيات القرن العشرين هي 360 مليار دولار.. طبعاً تلاشت بعد الخصخصة، وزاد عليها النهب عبر فوائد الديون التي وصلت عشرات مليارات الدولارات، وظلت المديونية عالية، وهي تستنزف الميزانية. هذه الحالة طالت كل البلدان التي دخلت طريق الخصخصة (وهي كل البلدان العربية) والاستدانة. الاستدانة التي باتت وسيلة توظيف المال المتراكم في المراكز الرأسمالية، رغم أن الأمر يطرح على أنه "مساعدة" لحل مشكلة "عجز الموازنة".

لهذا كان النمط الاقتصادي الذي تشكّل خلال العقود الأربعة الماضية يثري فئة مجتمعية، لكنه يفقر ويهمش الأغلبية المجتمعية.

وهذه هي الحالة التي كانت في أساس انفجار الثورات في البلدان العربية، فقد باتت أغلبية مجتمعية غير قادرة على تحمل الوضع المزري الذي باتت فيه، ولم يعد أمامها من خيار سوى الثورة، سوى التمرّد، وإعلان عجزها عن الاستمرار في "الحياة"، حيث باتت الحياة تساوي الموت.

بالتالي كان ما تريده أن تعاد صياغة التكوين الاقتصادي بما يسمح بتحسين وضعية هؤلاء، عبر حل مشكلة البطالة، وزيادة الأجور، وتحسين وضعية التعليم والصحة. وهو الوضع الذي كان يفرض تغيير النمط الاقتصادي بما يؤسس لاقتصادٍ يستوعب البطالة المتراكمة وأيضاً العمالة الوافدة إلى سوق العمل سنوياً، ويسمح بزيادة الأجور بما يوازي ارتفاع الأسعار، أو ضبط الأسعار بما يناسب الأجور، ومن ثم تحسين وضع التعليم والصحة والبنية التحتية وحق السكن. وهذا كان يفرض تجاوز الاقتصاد الريعي لمصلحة اقتصاد منتج، أي العودة إلى بناء الصناعة وتطوير الزراعة.

عودة دور صندوق النقد الدولي
الأمر المفاجئ أن دور صندوق النقد الدولي عاد بعد الثورات في البلدان العربية، فقد أدت الأزمة المالية في جنوب شرق آسيا عام 1997، وثبوت خطأ سياسات الصندوق، إلى تراجع دوره، وبدا أنه انتهى خلال العقد الجديد، خصوصاً مع نشوب الأزمة المالية الرأسمالية التي فرضت ممارسة سياسات معاكسة لشروط الصندوق، حيث تدخلت الدولة الرأسمالية بشكل شرس لمنع انهيار البنوك والمؤسسات المالية الكبيرة، وبدا أن دورها محوري بعكس الخطاب الذي كان يعممه الصندوق وجرى الترويج له باسم العولمة.

وكان واضحاً أن الصندوق "على سرير الموت"، لكنه نهض من السرير حين انفجرت الثورات العربية، لنجد أنه عاد لكي يفرض شروطه ويطبّق ما كان توافق مع النظم عليه قبل الثورات. وظهر أن سياسات الخصخصة عادت من النقطة التي توقفت عندها مع بدء الثورات. ولهذا باتت الحكومات "حكومات تكنوقراط" مهمتها اقتصادية بالأساس، لكن على أساس تطبيق سياسات صندوق النقد الذي يريد إكمال الخصخصة وفتح الأسواق بشكل "مطلق".

لماذا ذلك؟ بالضبط لأن أزمة الاقتصاد العالمي والطبيعة التي باتت تحكمه، تفرض أن يكون النهب أساس الاقتصاد، حيث إن منطق المضاربات الذي يحكم الاقتصاد الرأسمالي يفرض النهب كأساس في العلاقة مع الأطراف، وبالتالي لا بد من تكريس السياسة الاقتصادية التي فرضت نشوء النمط الاقتصادي الريعي، وتعميم الخصخصة لكي تشمل كل ما يدرّ ربحاً.

الآن يجري فرض تعميم دور الرأسمال "الخارجي" عبر تسهيل كل أشكال نشاطه، وحماية الدولة له، وضمان أرباحه، وضمان حصوله على القروض لكي ينشط فيها محلياً. كما تجري من أجل ذلك خصخصة كل القطاعات الاقتصادية التي هي حاسمة للشعب، مثل الغاز والكهرباء والمشتقات النفطية، والتعليم والصحة، وأقول: كل شيء.

أزمة الاقتصاد العالمي، والطبيعة التي باتت تحكمه، تفرض أن يكون النهب أساس الاقتصاد، حيث إن منطق المضاربات الذي يحكم الاقتصاد الرأسمالي يفرض النهب كأساس في العلاقة مع الأطراف، وبالتالي لا بد من تكريس السياسة الاقتصادية التي فرضت نشوء النمط الاقتصادي الريعي، وتعميم الخصخصة لتشمل كل ما يدرّ ربحاً

إن الآليات التي بات النمط الرأسمالي يقوم على أساسها، والتي تتمثل في المضاربة وهيمنة النشاط المالي على النشاط الرأسمالي، تجعل النهب هو العملية المباشرة التي يجب أن تفرض في الأطراف، وهذا يتحقق فقط من خلال الاقتصاد الريعي والسماح بحرية شاملة لما يسمى "الاستثمارات القصيرة الأجل" التي تنشط فقط في أسواق الأسهم والعقارات وقطاعات المواد الأولية، ولا ترغب أصلاً في النشاط المنتج. ولهذا تحتاج إلى تحرر اقتصادي شامل لكي تتحرّك بكل الحرية التي تحقق لها أن تجني الأرباح الطائلة، وأن تسهّل لها النهب المحلي.

ولأن الأزمة المالية الرأسمالية لم تنته، وأن المال المضارب يتراكم بشكل متسارع، ويريد التوظيف الأوسع والأرباح الأضخم، يصبح من الضروري توسيع الخصخصة وزيادة تسهيلات النشاط المالي، وهذا ما يجعل الرأسماليات المحلية معنية كذلك بزيادة النهب، وتسهيل السيطرة على الاقتصاد المحلي. لهذا يكون الخيار هو الإغراق في "تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي"، وتجاهل كلية الوضع المجتمعي.

لهذا بُدِئ في "إقرار" قوانين جديدة تخدم كل ذلك تحت حجة مواجهة "عجز الميزانية"، ولهذا بات مطلوباً إصدار قانون يخص الاستثمار، وآخر يتناول العلاقة بين القطاعين العام والخاص، وثالث يبرر خصخصة الكهرباء والتعليم والصحة، وهذا ما يتحقق في مصر وتونس، وكان مطروحاً في اليمن.

وعلى ضوء ذلك ارتفعت الأسعار بشكل كبير، وجرى اختراع ضرائب جديدة أو زيادة الضرائب القائمة ليصبح للرأسمال الخاص حرية نهب ما تبقى من القطاع العام، وحرية الاستثمار في القطاع الريعي (وفي الغالب عبر قروض داخلية لا عبر ضخ أموال من الخارج كما يشاع)، وبدء خصخصة الكهرباء والتعليم والصحة لكي يجري الاستثمار فيها.

كل ذلك يعني بالضرورة زيادة تركز الاقتصاد في القطاع الريعي (الخدمات والسياحة والعقارات والبنوك والاستيراد والبورصة)، وتمركز الرأسمال بيد أقلية، وخروج جزء كبير منه إلى المراكز الإمبريالية.

لكنه يعني زيادة البطالة التي كانت قاربت نسبة الـ30% قبيل الثورات، وزيادة الفقر ليقفز إلى نسب تقارب 70-80% من أفراد المجتمع، وهو الأمر الذي يعني تفاقم الصراع، وأن ثورات جديدة قادمة بالضرورة. وبالتالي فإن الطبقات المسيطرة عالمياً ومحلياً لم يعد لديها خيار سوى تعميق النهب، وإن الشعوب التي كسرت حاجز الخوف لم يعد لديها إمكانية التراجع عن ثورتها، وعليها أن تستمر لكي تسقط النمط الاقتصادي القائم لتبني عالماً آخر يحقق لها القدرة على العيش الكريم.
ـــــــــــــــ
كاتب صحفي فلسطيني

المصدر : الجزيرة