فوق مستوى الوعي.. رواية تسمي الأشياء بأسمائها

غلاف رواية "أربعمائة متر فوق مستوى الوعي" لمحمد بن جبار

الخير شوار-الجزائر

في سفره الروائي الأول الصادر مؤخرا عن "دار الأمل"، يتجنب الكاتب الجزائري محمد بن جبار لغة المجاز، ويذهب بعيدا في تسمية الأشياء بأسمائها، انطلاقا من الاسم المعروف به (عوّاد) وليس انتهاء ببعض تفاصيل محيطه، حتى يحار المرء ما إذا كان عملا خياليا أم سيرة تتخذ من الفن الروائي إطارا لها.

وعلى عكس الكثير من النصوص التي يقتحمها أصحابها بلغة "كثيفة" أقرب إلى الشعرية، فإن بن جبّار دخل الموضوع مباشرة ودون مقدمات، وراح من الجملة الأولى يفسّر الرقم الذي وضعه في العنوان، والذي يتعلق -حسب النص- بالمسافة الفاصلة بين مقر العمل وأول نقطة انتظار لمحطة الحافلة.

وتغطي تلك المسافة التي قطعها ذهابا وإيابا ما يقارب من الربع قرن من الزمن، منذ أن التحق بعمله ذاك بإحدى المصالح الفلاحية في مرحلة الشباب، ليطوي عامه الخمسين في حالة "سيزيفية" (نسبة إلى أسطورة سيزيف الشهيرة) ويبدأ من حيث انتهى في عدمية تمكن بن جبّار من تحويلها إلى نص تجاوز التأريخ الذاتي إلى التأريخ الجماعي، ورصد مآلات بلاد تحوّلت من فرحة الاستقلال إلى خيبات متكررة ومصير ضبابي.

من شدة وضوح الحقائق وتطابقها مع الواقع والتاريخ، لا ندري في النهاية إن كان العمل تخييليا أو يتعلّق بسير حقيقية لأشخاص حقيقيين

تاريخ يتكرر
كانت المسافة المقدرة بأربعمئة متر كثيفة بالفعل، إلى درجة أصبحت "فوق مستوى الوعي" مثلما جاء في بقية العنوان، حيث تتقاطع الشخصيات والمصائر من الخاص إلى العام، ومن خلال ذلك الحيّز الصغير تجاوز السارد حكايته الخاصة لينتقل إلى أهم محطات تاريخ البلاد، من الثورة التحريرية إلى الآن، مرورا بما سميت في الجزائر "العشرية الدموية" في تسعينيات القرن الماضي.

وكأن تاريخ الجزائر المعاصر، الذي يقال إنه لم يُكتب بعد، يُصاغ في هذه الحكاية التي تبدو بسيطة، رغم أن السارد على لسان إحدى الشخصيات يعترف بأن الحقيقة لا تزال غائبة، فيقول "أنا الآن مجرد سائق عربة مهترئة، أكسب بها قوت يومي، ليست لي أسرار، الأسرار هناك في دهاليز السلطة وفي الأركان المظلمة للمخابرات وأقسام الأرشيف في إكس بروفانس".

ولئن بدا المسار عدميا منذ البداية، حيث تتكرر حركة الذهاب والإياب على تلك المسافة لمدة ربع قرن كامل من العمل، إلا أنه أثمر تلك الحكايات التي يبدأ بعضها من الصدفة، لكنها تتشابك وتتعقد لتتحول في النهاية إلى حكاية كبيرة، تنتهي إلى العدم، حيث التاريخ يكرر نفسه بأشكال تراجيدية وقد تقترب من الكوميديا السوداء، فيتبادل الأشخاص ومن يرثهم من أبنائهم وبناتهم الأدوار، ويتحوّل الجلّاد إلى ضحية والضحية إلى جلاّد، وكل ذلك يجد تفسيرا له في التاريخ البعيد الذي ينكشف شيئا فشيئا فتتضح الحقيقة عارية، حيث كتبها صاحبها بأسلوب مباشر لا يحتمل التأويل.

ومن شدة وضوح الحقائق وتطابقها مع الواقع والتاريخ، لا ندري في النهاية إن كان العمل تخييليا أو يتعلّق بسير حقيقية لأشخاص حقيقيين، خاصة وهو ينطلق من أرضية "حقيقية" تتطابق فيها صفات الراوي مع الروائي، ويبدو أن الأمر أبعد من ذلك.

تمكن بن جبّار من تجديد فكرته حول الكتابة الخمسينية التي تتلخّص في الابتعاد عن أساليب البلاغة المعروفة وعن استهلاك الصفحات الطويلة

كتابة خمسينية
محمد بن جبّار، الذي مارس الكتابة في وقت سابق، واضطر للانسحاب شيئا فشيئا وهو يغرق في الروتين اليومي، وجد في الفضاء الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي الفرصة للعودة من جديد، واستطاع أن يلفت إليه الانتباه بطريقته الخاصة في التعليق على الأحداث بسخرية طريفة. وانتظر بلوغه سن الخمسين، لينهي وينشر عمله الروائي الأول، الذي جاء بداية جديدة ليست ككل البدايات.

ومن خلال روايته الأولى، تمكن من تجديد فكرته حول "الكتابة الخمسينية"، التي تتلخّص في الابتعاد عن أساليب البلاغة المعروفة وعن استهلاك الصفحات الطويلة من أجل قول أشياء قليلة أو قول أي شيء.

لكن الكاتب استخدم "الأسلوب العاري" الذي لا يتردد في تسمية الأشياء بمسمياتها، ومن خلال حجم متوسط، حيث كشف عن الكثير من الحقائق وكأنه في عجلة من أمره.

ويؤكد محمد بن جبّار أن روايته الجديدة مجرد بداية لكتابة "خمسينية" أخرى. ولا ندري كيف ستبدو الأعمال التي تلي هذه البداية المتجددة، فهل ستكون تفصيلا لما جاء في هذا السفر الكثيف؟ أم إن التجربة ستنفتح على آفاق أخرى؟

المصدر : الجزيرة