قمّة واحدة لا تكفي!

تصميم صورة مقال للكاتب إبراهيم صموئيل للصفحة الثقافية، وهذا الاقتباس:
إبراهيم صموئيل*

حلا لفنان الكاريكاتير المعروف علي فرزات، في مرحلة من صعود نجمه، أن يكتب المقالات، فنشر نصا ساخرا على الصفحة الأخيرة من ملحق جريدة الثورة السورية، لفت الأنظار إليه ونال الإعجاب الكبير لما اتسم به من رشاقة، وخفة دم، وأسلوب جذاب.

غير أن أصدقاءه ومحبي رسومه سارعوا إلى إبداء قلقهم من أن تستهلك الكتابة قسطا من زخم طاقته في الرسم، فنصحوه بالتوقف عن المتابعة، والتفرغ كليا للرسم فقط، خشية تأثر رسومه سلبا جراء توزيع موهبته وإمكاناته على حقلين معا.

توقف علي فرزات بعدها عن متابعة الكتابة، مكتفيا بما تقدمه لوحات رسومه الكاريكاتيرية كل صباح لمتلقيها من متعة كبيرة جعلت مطالعة الصحيفة تبدأ، على أيدي متابعيها، من صفحتها الأخيرة التي تضم رسمه.

توقف فرزات فعلا، ولم يعد إلى الكتابة فيما أعلم، مخلفا التساؤل عما إذا كانت الحياة الثقافية في سوريا قد خسرت مبدعا في الكتابة الساخرة جراء نصيحة الأصدقاء واستجابته، أم هي كسبت مبدعا في فن الكاريكاتير صار واحدا من أهم عشرة رسامين في العالم لهذا اللون؟!

قمة بل قمم
والتساؤل السابق يطرح تساؤلا أوسع منه: هل طاقات المبدع وأفكاره وعوالمه تحتاج إلى أكثر من جنس أدبي واحد أو لون فني واحد لاستيعابها والتعبير عنها، أم إن من شأن عين المبدع -بعد وصوله إلى قمةٍ- أن ترنو إلى قمة أخرى، أو أكثر أحيانا، وتشتهي الوصول إليها؟

إبراهيم الكوني أصدر مجموعات قصصية عديدة، غير أنه لم يصبح علما في فن القصة. ونزيه أبو عفش رسم وأقام معرضا للوحاته، غير أن الشعر ظل لصيقا باسمه. ومحمد الماغوط لم تستطع مسرحياته أن تضيف اسمه إلى كتاب المسرح

للتمثيل على ذلك، يمكن أن نذكر ممدوح عدوان الذي قدم نفسه شاعرا في الستينيات وصار علما في هذا الجنس، غير أنه نشط في حقل كتابة الدراما التلفزيونية، وحقل الكتابة المسرحية، وحقل الرواية، وحقل الترجمة، وحقل النقد الأدبي، فضلا عن انخراطه في العمل الصحفي والعمل التدريسي في المعهد العالي للفنون المسرحية، ومشاركته في إخراج نصوصه المسرحية.

ورغم دأب عدوان على العمل في أكثر من حقل وجنس أدبي وفني، وإصداره العديد من الكتب والأعمال في تلك المجالات (ناهزت في مجملها ثمانين كتابا)، فإن اللافت بوضوح هو أن اسمه اقترن بالشعر على نحو وثيق، فما ذُكر في مختلف المحافل الثقافية والدوريات إلا وقُدم بصفته "الشاعر".

كذا حال عدد من المبدعين مثل الروائي إبراهيم الكوني الذي أصدر مجموعات قصصية عديدة، غير أنه لم يصبح علما في فن القصة. ونزيه أبو عفش الذي رسم وأقام معرضا للوحاته، غير أن الشعر ظل لصيقا باسمه. ومحمد الماغوط الذي لم تستطع مسرحياته أن تضيف اسمه إلى كتاب المسرح، كما لم تقدم روايته "الأرجوحة" إلى منجزه الشعري شيئا ولم تؤخر. ثم هل يمكن ليوسف إدريس أن يكون سوى العلم الأكبر في منجز القصة القصيرة، بحيث ما ذُكر هذا الجنس الأدبي إلا وكان اسمه الحاضر الأبرز، رغم ما أصدره من روايات ومسرحيات؟

كم وكيف
وفي المقابل، على الضفة الأخرى، ثمة كتّاب كثر كرسوا طاقاتهم لجنس أدبي واحد، أبدعوا فيه وعُرفوا من خلاله، على غرار زكريا تامر -مثلا- الذي ظل معتصما بحبل القصة القصيرة في كل ما صدر له، بما في ذلك مقالاته التي نشرها في مجلة "الناقد" وضمها فيما بعد إلى مجموعاته على أنها قصص أيضا.

ألم نردد جميعنا المقولة الأشهر بأن لكل مبدع في الفن والأدب عملا رئيسا واحدا، وما الباقي سوى تكرار له، أو استنساخ منه، أو دوران في فلكه؟

لا يمس الكلام هنا حرية المبدع واختياراته. القصد هو التساؤل: هل احتدام العوالم والموضوعات داخل المبدع هو الذي يدفعه للبحث عن إظهارها في أكثر من جنس ولون ونوع من التعبير، أم إن وصوله إلى قمة هو ما يحثه ويثير شهيته للتربع على قمة أخرى؟

سواء كان دافع المبدع للإنتاج في أكثر من حقلٍ غزارةُ موضوعاته وتنوعها، أم شهوته للتربع على ذرى عدة في آن معا… فإن الملاحظ أن لكل مبدع صفة واحدة تلازم اسمه كظله، بحيث يندر استحضاره في الأذهان بظلين.

وما الغرابة في الأمر؟! ألم نردد جميعنا المقولة الأشهر بأن لكل مبدع في الفن والأدب عملا رئيسا واحدا، وما الباقي سوى تكرار له، أو استنساخ منه، أو دوران في فلكه؟ فكم بالأحرى حين يتعلق الأمر بأجناس أدبية، أو ألوان فنية، لكل جنس أو لون كيانه الخاص والمستقل، وإنْ كانت تندرج تحت مسمى مشترك؟

وفي سياق موضوعنا تحضرني جملة افتتاحية بدأ بها الناقد الكبير فاروق عبد القادر مقاله عن يوسف إدريس بالقول "إن يوسف إدريس عندي هو كاتب القصة القصيرة أولا وأخيرا"، وهو قول دقيق، بالغ الدلالة، وعميق الرؤية، لا فيما يتعلق بإدريس فحسب، بل أيضا بالعديد جدا من الكتاب والفنانين العرب الذين أنتجوا في غير حقل، سواء تحت هذا الدافع أو ذاك، وسواء أبدعوا في الحقول الأخرى أم أنهم أضافوا كمًّا على كمٍّ فحسب.

_______________

* كاتب وقاص سوري

المصدر : الجزيرة