نزار قباني وتأميم الشعر العربي

تصميم صورة مقال للكاتب علي البتيري

علي البتيري*

في النصف الثاني من القرن الماضي، فاجأنا الشاعر الراحل نزار قباني بدعوته الجريئة والصريحة إلى تأميم الشعر العربي بشكليه القديم والحديث على حد سواء، لتحريره من أسر السريالية الغامضة من جهة، وليكون في متناول الأغنياء والفقراء، فقراء الثقافة وأغنيائها على حد سواء.

والذي دفع شاعرنا الراحل إلى تبني هذه الدعوة دوافع كثيرة، منها حرصه على جماهيرية الشعر العربي المعاصر التي بدأت تتناقص، وإحساسه الذي ظل ملازما له بأن القصيدة الجيدة لا تكتمل إلا بقراءتها وتفاعل المتلقي معها، وقناعته بأن جمهور الشاعر شريك له في شعره، كما أنه المقيّم الأول لتجربته وعطائه الشعري، متقدما على النقاد ودارسي الشعر العربي قديمه وجديده.

والشاعر نزار قباني كان من أكثر الشعراء العرب المعاصرين احتراما للقارئ ودوره في العملية الشعرية بكل مراميها وتفاصيلها الفنية، إن لم يكن أكثرهم على الإطلاق.

رسم الكلمات
وهذا التقدير الصادق للقارئ المتلقي كان وما زال السبب الكامن في انتشار أشعاره في كل مكان يصل شعره إليه، ليصبح بين زملائه وأقرانه صاحب أكبر جمهور شعري في الوطن العربي بأسره. وتلك مسألة محسومة لا نقاش فيها.

نزار اعتراف ذات مرة لصحفية كانت تجري معه مقابلة بأنه قبل لقائه جمهوره بيوم كان يبدو شديد الحيرة في اختيار القصائد التي سيقرؤها ويستحسنها جمهوره المتشوق لسماعه، كما اعترف بأنه كان يصوم يومه الذي يسبق الأمسية

لقد كان نزار قباني عملاقا وأستاذا في رسمه قصيدته بالكلمات على الرغم من أن قاموسه الشعري كان محدود المفردات، ولكنه في المقابل كان يبدو تلميذا متهيبا أمام جمهوره يحسب له ألف حساب حين يقبل عليه أو يلتقيه في أمسية شعرية.

واعترف نزار ذات مرة لصحفية كانت تجري معه مقابلة بأنه قبل لقائه جمهوره بيوم كان يبدو شديد الحيرة في اختيار القصائد التي سيقرؤها ويستحسنها جمهوره المتشوق لسماعه، كما اعترف بأنه كان يصوم يومه الذي يسبق الأمسية، وكأنه يطلب من الله أن يهديه إلى سلامة انتقائه القصائد التي سيقرؤها في اليوم التالي.

لقد كان -رحمه الله- أحرص شعراء عصره على أن يفهم الجمهور المتلقي قصائده ليتفاعل معها وتترك أثرا لاحقا في العقول والنفوس، ولكن هذا الحرص الشديد لم يكن على حساب فنية الشعر وجماليته وارتقاء صوره ومعانيه.

وتأكيدا منه على هذا الحرص الشديد صرح بالحرف الواحد لأحد الصحفيين قائلا: إذا علمت بأن هناك طفلا في باكستان يقرأ العربية ولم يفهم قصيدتي ولم تصل إليه بلغتها ومعانيها سأذهب إليه لأفهمه قصيدتي.

من هذا المنطلق، ومن هذه القناعة الراسخة بدور جمهور الشعر الحيوي والفاعل، دعا نزار قباني صراحة إلى تأميم الشعر العربي للحفاظ على اتساع دائرة جمهوره وسعة انتشاره في وطن عربي كبير مترامي الأطراف، ليقوم الشعر والشاعر بدورهما الوطني والقومي والإنساني في إصلاح الحاضر المأزوم والمقلق، ورسم معالم مستقبل يكون أكثر إشراقا وجدوى.

وكيف لا يدعو نزار قباني إلى تأميم الشعر العربي لصالح جمهوره وهو يرى جماهيرية الشعر تتراجع ويخبو ألقها، حيث جمهوره يتناقص وتضيق دائرة حضوره وتجاوبه مع شعراء يبالغون في رمزيتهم وغموض قصائدهم الذي يصل إلى درجة الإبهام والطلسمة، وإلى الحد الذي يجعل الشاعر في واد والجمهور في واد آخر، وبينهما جدار سريالي مرتفع لا نوافذ فيه ولا أبواب.

خبز الفقراء
ومن أجدر من نزار لتبني هذه الدعوة، وهو صاحب التجربة الشعرية المخضرمة التي جمعت بين الكلاسيكية الأنيقة والحداثة الرشيقة المنفتحة على ثورة الشعر الحديث وانتفاضاته المتلاحقة.

ونزار وهو يدعو إلى تأميم الشعر العربي ينطلق أولا من احترامه الكبير لدور المتلقي في صناعة القصيدة وترويجها، وإن كان هذا الدور يجيء تاليا بعد أن يفرغ الشاعر من كتابة قصيدته.

نحن نرى تراجع جمهور الشعر وتضاؤل حجمه ودوره نتيجة وقوع الشعر العربي الحديث أسير نفر من الشعراء الذين يذهبون بلغتهم الفائقة وصورهم الشعرية بالغة التركيب والتعقيد إلى أماكن وأودية بعيدة يهيمون فيها

وثانيا ينطلق من قلقه جراء تداعي سلطة الجمهور الشعرية على طبيعة الشعر العربي بمختلف صياغاته وأشكاله.

والشاعر نزار قباني عندما يدعو إلى تأميم الشعر ليصبح خبز الأغنياء والفقراء، إنما ينطلق من إيمانه كشاعر مكابد ومجرب لرسالة الشعر ووظيفته في المجتمع، بعيدا كل البعد عن نظرية "الفن للفن".

ولنستمع في هذا الصدد إلى يوسف الخال وهو يرد على دعوة نزار قائلا له: نحن نعترف بسطوتك على الجماهير العربية ولكننا نختلف عنك، أنت تكتب للجماهير الحالية ونحن نتحدث إلى الجماهير المقبلة، إلى العصور الآتية.

ولكن يوسف الخال لم يلبث أن تراجع عن رده وموقفه معلنا توقف مجلته "شعر" عن الصدور قائلا للقراء "ها نحن نسقط أمام جدار اللغة".

ولم يبق على حلبة الصراع إلا رد نزار قباني على يوسف الخال وحجته الضعيفة، حيث جاء في الرد "والله يا يوسف أنا لا أتعاطى مع المجهول، وأنا شاعر حب أولا، ولا أعرف كيف سيكون الحب عام 2000".

نحن نرى تراجع جمهور الشعر وتضاؤل حجمه ودوره نتيجة وقوع الشعر العربي الحديث أسير نفر من الشعراء الذين يذهبون بلغتهم الفائقة وصورهم الشعرية بالغة التركيب والتعقيد إلى أماكن وأودية بعيدة يهيمون فيها، فلا يستطيع الجمهور المحب للشعر اللحاق بهم أو النزول إلى أودية سريالية سحيقة تضج بالغموض والإبهام والهذيان الذهني مغلق الجمل والزاخر بالمفردات العصية على الفهم أو التأويل.

لذا، فنحن في حاجة إلى تجديد دعوة الشاعر الراحل نزار قباني لتأميم الشعر العربي الهادف أولا وأخيرا، بمعنى فلترته وتنقيته من الشوائب والألاعيب السحرية الخفية، وتبرئته وتنظيف معدنه الثمين مما تراكم عليه من غبار الركاكة والإسفاف والتكلف البعيد عن جودة الأداء وجلاء المعنى وحيوية التفاعل مع الجمهور.
_________________ 

* كاتب وشاعر فلسطيني

المصدر : الجزيرة