"سي السيد".. خرافة فنية أبدعها نجيب محفوظ!

تصميم مقال الكاتب - ناصر يحيى / إحدى علامات إبداع نجيب محفوظ أنه لم يقدم الإنسان في صورة مثالية إما شريرا أو خيّرا.. فالإنسان هو الإنسان يحمل في نفسه عوامل الخير والشر، وتجرفه أمواج الحياة هنا وهناك

ناصر يحيى* 

في تاريخ الرواية العربية جسدت شخصية السيد أحمد عبد الجواد أو "سي السيد"، بطل ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) رمزية سلبية عن طبيعة العلاقات الاجتماعية في المجتمع المصري في الثلث الأول من القرن الماضي.. وصارت بقسوتها واستبدادها وتناقضاتها الأخلاقية رمزا يستخدمه دعاة حرية المرأة للتنديد بالرجل الشرقي المستبد!

ولأن "ثلاثية بين القصرين" أبرز عناوين المرحلة الواقعية في أدب نجيب محفوظ -التي صور فيها تاريخ أسرة مصرية على مدى أجيال وفهم القراء أن شخصياتها حقيقية- فقد كانت المفاجأة التي كشف عنها الكاتب نفسه أن تلك الشخصية المثيرة للخيال والجدل ليست أكثر من شخصية خيالية لا وجود لها في الواقع بتلك المواصفات.

"سي السيد" شخصية خيالية أبدعها قلم محفوظ ونحتها -كما اعترف في مذكراته التي صاغها الراحل رجاء النقاش- من صفات عدة شخصيات عايشها في صباه

فلا توجد في أسرة محفوظ ولا حارته ولا زمنه شخصية جمعت كل تلك المتناقضات التي ميزت "سي السيد" وجعلت منه علامة على عصره، فهو الأب القاسي والزوج الدكتاتور في البيت.. وفي الخارج هو رجل الأنس والفرفشة، وزهرة مجالسها، وصاحب اللسان السليط الذي يبدع في تأليف النكت والقفشات الجارحة! وفي البيت هو الرجل التقي الذي يحافظ على الصلوات ويمتلئ قلبه بالإيمان والخشوع حتى يفيض على وجهه، والمتزمت الذي جعل البيت سجنا لنسائه، وحرم عليهنّ الخروج ومجرد النظر من النافذة، ومنعهنّ من إلقاء نظرة الوداع على جثمان "فهمي" لأن ذلك كان يقتضي ذهابهنّ إلى المستشفى.. وفي المقابل هو نفسه العربيد صاحب المغامرات الغرامية التي لا تفرق بين غانية لعوب وبين أرملة جار العمر، والذي يقضي لياليه معاقرا الخمر بين أحضان الغانيات ومصاحبا للمطربات والراقصات في غنائهن ورقصهنّ!

هذا هو "سي السيد" شخصية خيالية أبدعها قلم الأديب المصري الشهير، ونحتها -كما اعترف في مذكراته التي صاغها الراحل رجاء النقاش بعنوان" "نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته"- من صفات عدة شخصيات عايشها في صباه ليكون إحدى أشهر الشخصيات الفنية في الأدب العربي المعاصر.. فمن والده أخذ حبه للفن، ومن زوج شقيقته وجارهم الشامي أخذ القسوة والشدة في التعامل مع الزوجات، ومن عمه الوسيم المحب للحياة صاحب العلاقات الغرامية الكثيرة أخذ ذلك الجانب المحب للهو والعربدة..

وكانت الخلاصة شخصية "سي السيد" المرعبة الجبارة التي لا يزال كثيرون يظنونها إنسانا عاش في حقبة من تاريخ المجتمع المصري، وحتى صاروا يسمونها "عصر سي السيد" تدليلا على زمن كان الرجل (في ظنهم) مستبدا غاشما والمرأة مستضعفة ترتعد بجواره وهو نائم، وتخدمه خدمة الإماء والعبيد لأسيادهم، لا ترفع صوتا ولا ترمش جفنا في حضرته، وتتلقى أوامره وكأنها تنزيل من السماء!

نجيب محفوظ أقر في مذكراته بأن شخصية والده ليس لها علاقة بشخصية "سي السيد" المرعبة المنحرفة أخلاقيا إلا في شغفه بالطرب، أما والده فقد كان رجلا متدينا لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار

بين القصرين
ولأن الشائع أن ثلاثية بين القصرين تصور حياة أسرة نجيب محفوظ (وهي كذلك في بعض الملامح وخاصة فيما يتعلق بكمال أحمد عبد الجواد الذي جسد حياة نجيب محفوظ)، إلا أن الروائي الشهير أقر في مذكراته بأن شخصية والده ليس لها علاقة بشخصية "سي السيد" المرعبة المنحرفة أخلاقيا إلا في شغفه بالطرب، أما والده فقد كان رجلا متدينا لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار، يقضي وقته بعد عودته من العمل بين الصلاة وقراءة القرآن والتأمل الطويل، وينام بعد تناول العشاء لا يعرف السهر الماجن حتى الفجر.. وهو في تعامله مع أولاده ولاسيما نجيب الأصغر بينهم كان ودودا لطيفا لم يضربه إلا مرة واحدة عندما خالف أمره وفتح النافذة ليشاهد الجنود الإنجليز المعسكرين في حارتهم! وبدلا من وصف "ابن الكلب" الذي كان "سي السيد" يخاطب به "كمال" كان والد نجيب يبالغ في تدليله، ويستمع معه لأغاني المطربين، ويصطحبه معه إلى "نادي الموسيقى" للاستماع إلى أغاني المطربين القدامى الذين كان يعشقهم!

العلاقة بين والد نجيب ووالدته لم تكن كما صورتها "الثلاثية" علاقة بين زوج جبار وامرأة ذليلة خائفة، فقد كانت مثالا للاحترام والحب، ولأنها كانت امرأة عصبية فقد كان صوتها يعلو أحيانا على غير ما تجسد شخصية "أمينة" الخانعة.. وهي كانت امرأة ذواقة طرب، عاشقة لأغاني الموسيقار سيد درويش الذي كانت أغانيه تلعلع في البيت من "الفونوغراف". تحب التردد على المسارح والمتاحف وحتى أديرة المسيحيين، كما تحب التردد على مسجد الحسين!

لاشك أن الأديب يحق له أن يتجاوز الواقع ويبتكر شخصياته كما يشاء.. وربما لولا هذه الصفات المتناقضة التي شكل منها نجيب محفوظ شخصية "السيد أحمد عبد الجواد" لما حفظت الأذهان صورة "سي السيد".. ولما صار رمزا لعصر استبداد الرجل ومهانة المرأة في المجتمعات الشرقية! وهي في الأخير إحدى علامات الإبداع الروائي لنجيب محفوظ الذي لم يقدم الإنسان (رجلا أم امرأة) في صورة مثالية إما شريرا وإما خيّرا.. فالإنسان هو الإنسان يحمل في نفسه عوامل الخير والشر، وتجرفه أمواج الحياة هنا وهناك!

حكايتان غريبتان

محفوظ كان مرشحا للابتعاث للدراسة العليا في فرنسا لكن حذف اسمه في اللحظة الأخيرة بعد أن وجدوا قائمة المرشحين العشرة تضم ثلاثة طلاب مسيحيين فاستكثروا ذلك، ظنا منهم أنه مسيحي!

يورد نجيب محفوظ في مذكراته حكايتين غريبتين حدثتا له بسبب اسمه (محفوظ ليس اسم أبيه بل هو من الأسماء المركبة) الذي خلا من أي إشارة أو رمزية دينية/ طائفية تدل على هوية حامله، ولذلك كان البعض حتى من أقرب معارفه يظنونه مسيحيا، في الأولى كان الطالب المتفوق (نجيب محفوظ) مرشحا للابتعاث للدراسة العليا في فرنسا لكن القائمين على الأمر حذفوا اسمه في اللحظة الأخيرة بعد أن وجدوا أن قائمة المرشحين العشرة تضم ثلاثة طلاب مسيحيين فاستكثروا ذلك! ولأنه كان الثالث في الترتيب بينهم فقد كان هو الذي دفع الثمن وخسر البعثة.. وإن كان قدره قد هيّأ له الطريق ليكون رائد الرواية العربية والعربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل للأدب!

الحكاية الأخرى وقعت له مع أستاذه وملهمه الدكتور الشيخ مصطفى عبد الرزاق أستاذ الفلسفة في الجامعة.. فقد ارتبط به علميا وروحيا، وكان من مريديه وزواره الدائمين في بيته العامر طوال عامين.. ومع كل تلك العشرة إلا أن الشيخ الفيلسوف لم يكتشف أن تلميذه الأثير مسلم! حتى كان الشيخ الجليل يوما في قاعة الجامعة والدرس عن أصول الإسلام، وسمع الطلاب أستاذهم يقول: "إن الطلبة المسلمين يعرفون هذا الموضوع جيدا لكني سأعيد شرحه مرة أخرى علشان أخونا نجيب محفوظ.."، فقد كان يظنه مسيحيا بسبب اسمه.. لكنه فوجئ بالطلاب يهتفون: "يا مولانا.. دا مسلم!".

_______________

*كاتب صحفي يمني

المصدر : الجزيرة